بائع البطاطا - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بائع البطاطا

نشر فى : الأربعاء 7 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 7 أغسطس 2013 - 8:00 ص

أعادنى الرجل بالذاكرة إلى ستة عقود مضت، أيام تلمذتى بمدرسة محمد فريد فى شبرا.. أمام بابها الحديد كالعادة يتجمع باعة حمص الشام وغزل البنات والجيلاتى، بالإضافة لعربة يد فوقها كوم من العسلية، حولها خمسة رجال يصفقون ويتراقصون، ينادون على سلعتهم بصوت منغم «العشرة بتعريفة»، تلك العملة التى انقرضت وكانت أيامها ذات شأن.. يمكنك أن تشترى بها طبق فول، أو رغيف كامل الشروط، أو سندوتش طعمية بالطحينة والسلاطة.

مدرس اللغة العربية رحمه الله حيا أو فى رحاب المولى، يتسم بوداعة تجعلنا نأنس له، فهو على العكس من بقية المدرسين، لا يباغت الصبى منا بصفعة أو شلوت، متأنق بالجبة اللامعة وفوقها قفطان بنى اللون، يضع على رأسه عمامة ناصعة البياض.. اسمه «الشيخ طاهر» يكتب على السبورة بخط متسق جميل، يعلمنا طريقة كتابة «الواو» وضرورة أن تكون قريبة من الحرف الذى يليها حين تكون جزءا من الكلمة، وألا تلتصق بما بعدها حين نستخدمها للعطف.. ولايفوته أن ينبهنا إلى معان أخرى للواو، سنتعلمها فيما بعد.. ولسبب ما، كان الشيخ طاهر حزينا، لكن لم يغضب أبدا، فى إحدى حصص الإملاء، وقف عند نافذة الفصل، وبينما يصل لأسماعنا أصوات الباعة، قال الأستاذ بصوت يمتزج فيه الأسى بالكدر: اسمعوا يا أولاد، أى واحد فى سنكم من الممكن أن يقف عند عربة اليد ليبيع العسلية، لكن أن يتولى أربع أو خمس رجال هذه المهمة التافهة، فإن هذا يعتبر بطالة مقنعة.. أخذ الشيخ طاهر يشرح لنا معنى «البطالة المقنعة» و«البطالة السافرة».. فهمنا جزئيا، بعض ما يقصده، لكن ما وقر فى وعينا قوله: فى المستقبل إذا رأيتم رجالا لا يعملون ولا ينتجون فاعلموا أن بلادكم ليست بخير، فالبطالة تتضمن أوخم العواقب.

مرقت الأيام، لكن صورة الشيخ طاهر وعطره الخفيف الذى يوحى بالسلام ظل باقيا فى الذاكرة، أما مسألة البطالة فإنها بهتت أو تلاشت، خلال الستينيات، فى سنوات التشييد والبناء، ولأول وآخر مرة يصدر قانون يلزم الدولة بتشغيل أبنائها، قبل مرور عام على تخرجهم، وبالتالى قلما سمعنا عن أعمال بلطجة أو سرقة بالإكراه.. دار الزمن دورة.. ومع انفتاح أواخر السبعينيات وحمى بيع المصانع والشركات والمؤسسات، وما استتبعها من تسريح عمال وموظفين وتضييق فرص العمل أخذت البطالة تنتشر، وتزيد مما أوصلنا إلى ما نحن فيه.

ما نحن فيه، يجسده هذا الرجل الذى أعاد حضور «الشيخ طاهر» لذاكرتى، خاصة فيما يتعلق بتعليقى على بائعى العسلية، الرجل عرفته شابا صغيرا منذ الربع قرن، فوالده بلدياتى من أسيوط، طلب منى التوسط لإلحاقه بأى عمل.. وعدته خيرا، لكن الخير لم يأتِ.. فوجئت بالشاب منذ أسبوعين فى الشارع المؤدى لرابعة العدوية.. هو الذى عرفنى، فقد تغيرت ملامحه، أصبح كهلا، ملتحيا، منهكا، سألته عن عمله أجابنى أنه مع مجموعة من أسيوط التحقوا باعتصام رابعة كنوع من «أكل العيش» وتجهم وجهه حين قلت له: «غدا سينفض الجمع، فماذا ستفعل؟.. بدا حائرا، يائسا، وعلى مضض أجابنى: «أى شىء.. قد أبيع بطاطا».. وتركنى متجها لرابعة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات