جرجس والدولار - شريف عثمان - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 6:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جرجس والدولار

نشر فى : الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:15 ص | آخر تحديث : الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:15 ص

«جرجس» هو المنادى الذى يسيطر على حركة انتظار السيارات فى جزء كبير من الحى الذى أعمل به. لم يؤته الله سعة من العقل أو العلم، إلا أنه حباه من الذكاء ما استطاع به أن يسيطر على الشارع بأكمله، وكان دائما ما يلجأ لى لحسم أى خلاف ينشب بينه وبين السائق الذى يعمل معى واسمه «محمد». فقد أدرك جرجس بذكائه الفطرى أننى ــ درءا للشبهات ــ سوف انحاز اليه فى كل موقف، حتى لو لم يكن معه الحق.

 

الأسبوع الماضى، وبعد أن تركت السيارة فى عهدة الأخ جرجس، فوجئت به يسألنى «هو الدولار هيزيد يا بيه؟!» وللحق فإن السؤال فاجأنى على الرغم من سماعى له عشرات المرات منذ اندلاع الثورة. فجرجس لم يكن الوحيد الذى يشغل باله ارتفاع الدولار أمام الجنيه، وعلى مدار العشرين شهرا الأخيرة، لم يكف الخبراء عن مناقشة هذا الموضوع، وتعالت الأصوات مع اقتراب حصولنا على قرض من صندوق النقد الدولى، حيث توقع الكثيرون أن يطلب الصندوق من مصر ــ كشرط للحصول على القرض ــ تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار. 

 

ماذا حدث للدولار فى مصر بعد الثورة؟

 

بعد قيام ثورة 25 يناير المجيدة، ازداد الطلب على الدولار فى مصر وانخفض المعروض منه. فقد زاد الطلب عليه عندما باع المستثمرون الأجانب الأسهم والأذون والسندات المصرية التى كانوا يملكونها (وهذا شىء طبيعى جدا)، وقاموا بتحويل حصيلة بيعهم تلك من جنيه إلى دولار، ثم قاموا بتحويل تلك الدولارات إلى بلادهم (وهذا حقهم بالطبع). كما زاد الطلب على الدولار أيضا لأن العديد من رموز النظام السابق وشركائهم حولوا ثرواتهم إلى دولارات وهربوها للخارج (وربما هربوا خلفها)، بخلاف ما أنفقه المصريون فى تركيا، (6 رحلات طيران يوميا خلال فترات الأعياد)، وعلى شواطئ أوروبا ومحلاتها، وفى سفرهم لدبى وأمريكا والصين للتنزه والدراسة والتجارة، أو للسعودية لأداء الحج والعمرة مرات ومرات. كل هؤلاء زادوا الطلب على الدولار، بخلاف الطلب الطبيعى الذى نتج عن كون معظم ما نأكله ونلبسه ونستهلكه مستوردا من الخارج.

 

أما المعروض من الدولار فقد انخفض بسبب انخفاض أعداد السائحين الذين زاروا مصر خلال الفترة الماضية، بالإضافة إلى عدم رغبة المستثمرين الأجانب فى الاستثمار لدينا لظروف عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى والأمنى.

 

وكانت النتيجة الحتمية لكل ما سبق أن يرتفع الدولار مقابل الجنيه، وهو ما حدث بالفعل. فعندما قامت الثورة كان الدولار يشترى خمسة جنيهات وثمانين قرشا. وحاليا وصل سعر الدولار إلى حوالى ستة جنيهات وتسعة قروش، أى أن الدولار ارتفع مقابل الجنيه خلال عشرين شهرا بمقدار 5%. ولاحظ أن من احتفظ بالجنيه فقد 5% من قيمته، إلا أنه استفاد بسعر الفائدة المرتفع على الجنيه مقارنة بالدولار، وفارق الفائدة هذا يقدر بحوالى 17% خلال الشهور العشرين الماضية.

 

صندوق النقد وسعر الدولار مقابل الجنيه

 

مع ظروف الثورة وما استتبعها من تباطؤ فى عجلة الاقتصاد وشبه شلل لفترات طويلة فى أغلب مفاصل الدولة، كان متوقعا أن يرتفع الدولار بأكثر من ذلك بكثير، إلا أن البنك المركزى المصرى رأى ــ ومعه كل الحق ــ ضرورة الدفاع عن العملة المصرية. واستطاع البنك المركزى أن يسد الفجوة بين المطلوب والمعروض من العملة الأجنبية بواسطة احتياطيات النقد الأجنبى الموجودة لديه، والتى يعد من أهم أسباب وجودها الدفاع عن العملة المحلية فى مثل تلك الظروف، فانخفضت تلك الاحتياطيات من حوالى 36 مليار دولار قبل الثورة مباشرة، إلى 15 مليار دولار حاليا. وقد أدى ذلك التدخل من البنك المركزى إلى اعتبار العديد من المحللين والاقتصاديين فى مصر وخارجها أن ثمن الجنيه المصرى حاليا يزيد على ثمنه الحقيقى أو قيمته الحقيقية كما يعكسها حجم المطلوب والمعروض منه، بنسبة تتراوح بين 15% ــ 20%.

 

وبناء على ما سبق، فإن صندوق النقد قد يرفض منح مصر القرض الذى طال الحديث عنه قبل أن يصل الدولار إلى سعره «الحقيقى» مقابل الجنيه، وهنا يكون أمامنا حل من اثنين للحصول على قرض، يرى الكثيرون أنه ضرورى ولا بديل عنه فى الوقت الحالى. فإما أن يقوم البنك المركزى بإجراء تخفيض كبير فى قيمة العملة المحلية دفعة واحدة، وهو ما يطلق عليه Devaluation، أى أن يعلن فى لحظة ما أن الدولار قد أصبح سعره مثلا سبعة جنيهات، وهو ما قد يؤدى إلى العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى لا نستطيع تحملها فى الوقت الحالى، وقد يؤدى مثل هذا القرار لحدوث فوضى كبيرة، وقد تنهار العملة تماما كما حدث فى بعض دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.

 

أما الحل الآخر الواقعى فهو السماح بحدوث انخفاض تدريجى Gradual Depreciation فى قيمة العملة المصرية مقابل الدولار، حتى تقترب من قيمتها الحقيقية، مع العمل فى نفس الوقت على زيادة تلك القيمة بجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة الصادرات والحد من الاستيراد غير المبرر، وزيادة حملات التوعية فيما يتعلق بالوضع الاقتصادى الذى نمر به ومشكلة العجز فى ميزان المدفوعات وانخفاض احتياطى النقد الأجنبى اللذان يزيدان الضغوط على العملة المصرية، حتى أصبحت تلك الضغوط تمثل تهديدا لأمن مصر القومى أكثر من أى شىء آخر فى الوقت الحالى.

 

فمن شأن كل ذلك أن يساعد على زيادة «القيمة الحقيقية» للجنيه مقابل الدولار وبالتالى تقليل حجم التخفيض المطلوب فى قيمة العملة المصرية لتصل إلى قيمتها الحقيقية. فلو افترضنا أن الجنيه المصرى يزيد حاليا بنسبة 17 بالمائة عن قيمته الحقيقية، ولو طبقنا الإجراءات السابق ذكرها، لن نحتاج لتخفيض قيمة الجنيه خلال الاثنى عشر شهرا القادمة بأكثر من 7 ــ 8 بالمائة، والجزء المتبقى سيكون ارتفاعا حقيقيا فى قيمة الجنيه. فكل المطلوب هو توفير حد أدنى من الأمن ووضوح المسار السياسى والتعهد بسيادة القانون.

 

أما بالنسبة للمواطن المصرى، فيتعين عليه ألا يقلق من انخفاض قيمة العملة المصرية بمقدار 7% ــ 8%، ويجب ألا يكون ذلك دافعاّ لتحويل المواطنين مدخراتهم إلى دولار (كما يفعل البعض الآن). فبنظرة إلى فارق سعر الفائدة بين العملتين Interest Rate Deferential والمقدر حاليا بما يزيد على 10% سنويا سيدرك المصريون أن احتفاظهم بالعملة المحلية وحصولهم على فائدة الجنيه سيعوضهم عن أى انخفاض يتوقع حدوثه خلال الفترة القادمة، وبالتالى فإن تحويل مدخراتهم إلى دولار لن يكون ذا جدوى ولن يؤدى إلا إلى زيادة الطلب على الدولار، وهو ما يهدد بنسف كل الجهود المبذولة حاليا لإنقاذ الاقتصاد من الوضع المتردى الذى وصل إليه.

 

شريف عثمان مصرفي مصري
التعليقات