أرجوكم لا تمنعوا القطار من التحرك - شريف عثمان - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 7:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أرجوكم لا تمنعوا القطار من التحرك

نشر فى : الأحد 15 يناير 2012 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأحد 15 يناير 2012 - 9:10 ص

سى. دى. اس (CDS) اختصار لثلاث كلمات بالانجليزية هىCredit Default Swap وترجمتها بالعربية مقايضة الائتمان الافتراضية، وتعنى ببساطة تكلفة التأمين على الأقراض، حيث يقوم المقرض (المستثمر) بالتأمين على ما قام بإقراضه إلى إحدى الشركات أو الدول (من خلال أدوات الدين التى تصدرها هذه الشركة أو الدولة سواء كانت أذونا أو سندات) مقابل تضحيته بنسبة من العائد الذى يحصل عليه للجهة التى توفر له هذا التأمين (غالبا مؤسسة مالية أخرى) ويكون بذلك قد اكتسب مناعة ضد إفلاس الجهة التى قام بإقراضها. فإذا أفلست الدولة مثلا، تقوم الجهة المؤمن لديها بسداد كامل المبلغ الذى تم استثماره عند تاريخ الاستحقاق.

 

●●●

 

فى عام 1997 قام بنك جى بى مورجان بتقديم أول عقد CDS للأسواق، وانتشر بعدها اصدار مثل تلك العقود ونشطت التعاملات عليها بصورة كبيرة، حتى وصل حجم التعامل عليها عام 2007 إلى حوالى 45 تريليون دولار (45 وبجوارها اثنا عشر صفرا)، أو مايزيد على ضعف قيمة سوق الأسهم الأمريكية بالكامل.

 

وتلقفت أسواق المال العالمية ذلك المنتج الرهيب، فشهد اقبالا شديدا من كبار المستثمرين من البنوك والمؤسسات المالية، وتم تقديمه فى كل أسواق العالم، حتى أصبح هناك سعر معلن ــ يخضع لظروف الطلب والعرض ــ لتكلفة التأمين تقريبا على كل دولة فى العالم وعلى العديد من الشركات الكبرى، ويتم التعبير عن هذا السعر فى صورة نقاط. فيقال مثلا إن التأمين على السندات الحكومية التى أصدرتها البرازيل للاقتراض من الاسواق لمدة خمسة أعوام يبلغ 160 نقطة، بما يعنى ضرورة أن تدفع الحكومة البرازيلية سعر فائدة يزيد بمقدار مائة وستين نقطة (أو 1.6%) عن سعر الفائدة الذى تدفعه الحكومة الأمريكية (باعتبارها الأقل تعرضا لمخاطر الإفلاس فى العالم) حتى يستطيع المقرضون (المستثمرون) تغطية تكلفة التأمين وهكذا. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ما سبق، فقد أصبح حقيقة واقعة. وأصبحت أسواق المال تطلب أسعار فائدة بما يعوض تكلفة التأمين تلك، وبحيث يحصل أى مستثمر عن تعويض مقابل إقراضه (أو شرائه سندات) أو استثماره فى الدول مرتفعة المخاطر أو المعرضة للافلاس، وأصبحت تكلفة التأمين تلك مؤشرا لمدى خطورة الاستثمار فى أى دولة. فعند ارتفاعها يهرب المقرضون والمستثمرون من الدول ويحدث العكس فى حالة انخفاضها.

 

●●●

 

ولقد شهد الـ CDS الخاص بمصر تغييرات كبيرة خلال عام 2011 مع التطورات التى حدثت منذ اندلاع الثورة فى 25 يناير وحتى الآن، والشكل التالى يوضح هذا التطور كما يلى:

 

ولاحظ النقاط الرئيسية (1 ــ 6) على الرسم كما يلى:

 

نقطة رقم 1: قبل قيام الثورة وكانت الأمور «تبدو» طبيعية تماما وكانت تكلفة التأمين على الديون المصرية فى حدود 250 نقطة (2.5%).

 

نقطة رقم 2: يوم 26 يناير حيث قفزت تكلفة التأمين قفزة كبيرة حتى وصلت 430 نقطة، متفوقة على مثيلتها الخاصة بالديون العراقية فى ذلك الوقت بعد انطلاق المظاهرات فى 25 يناير، وهو ما كان ينذر بحدوث أمر جلل.

 

نقطة رقم 3: يوم 12 فبراير بعد تنحى مبارك وانتصار الشعب وانتعاش الآمال فى «مصر» جديدة. 300 نقطة.

 

نقطة رقم 4: يوم 11 أكتوبر بعد أحداث ماسبيرو وما أسفرت عنه من ضحايا. 490 نقطة.

 

نقطة رقم 5: يوم 18 نوفمبر ويمثل بداية العودة إلى ميدان التحرير والاعتصام. 550 نقطة.

 

نقطة رقم 6: يوم 20 ديسمبر بعد اندلاع أحداث مجلس الوزراء وما تلاها من مواجهات عنيفة بين قوات الجيش والمتظاهرين وعندها تخطت تكلفة التأمين على الديون المصرية رقم الستمائة نقطة! أى أن المستثمر الذى يريد تأمين نفسه ضد مخاطر إفلاس مصر يتعين عليه أن يدفع تكلفة تأمين تزيد على الستمائة نقطة (6%). يومها نقلت وكالات الانباء الخبر إلى المستثمرين فى كل العالم تحت عنوان «تكلفة التأمين على الديون المصرية تصل لأعلى مستوياتها» وأشارت التقارير إلى أن مصر أصبحت الدولة رقم اثنين على مستوى العالم فى ارتفاع تكلفة التأمين على الديون، فقط بعد اليونان. ولم يفتهم بالطبع أن يوضحوا للقارىء أن افلاس اليونان أصبح شبه مؤكد!

 

وبالطبع فإن ما حدث كان بديهيا. فعدم الاستقرار السياسى وتزايد أعداد الساخطين على أداء المجلس العسكرى وما استتبعه من عنف وسقوط لقتلى أثار حفيظة من كان يفكر فى إقراض أو الاستثمار فى مصر. كما أن انخفاض حجم احتياطيات النقد الأجنبى وتزايد عجز ميزان المدفوعات وارتفاع حجم الدين المحلى وتكرار تخفيض التصنيف الإئتمانى لمصر بواسطة مؤسسات التقييم العالمية كلها عوامل طاردة للاستثمار الأجنبى، فاذا اقترنت بتزايد الاعتصامات وقطع الطرق ومنع مجلس الوزراء من الانعقاد فى مقره مع تغيير الحكومة عدة مرات وعدم وجود رؤية واضحة فيما يتعلق بكيفية انقاذ الاقتصاد المتردى لابد أن يؤديا إلى نفس النتيجة. كل ذلك أدى إلى ارتفاع تكلفة التأمين على الديون المصرية وبالتالى عزوف المستثمرين عن التوجه إلى مصر. ولا يحق لنا وقتها أن نتساءل عن أسباب امتناع الدول الأخرى «الصديقة والشقيقة» عن تقديم العون إلى مصر أو عن شراء السندات المصرية أو عن اقراض أية مشروعات ــ حكومية أو خاصة ــ تعمل فى مصر. فمن ذا الذى يقرض بلدا يقترب من الأفلاس؟ ان أول ما يفكر فيه المقرض عند اتخاذ قرار الاقراض هو قدرة المقترض على السداد، وهى ما تبدو ضعيفة إلى حد كبير فى الحالة المصرية، ودليل ذلك ارتفاع تكلفة التأمين على الدين إلى ما يزيد على الستمائة نقطة.

 

●●●

 

إلا أن أهم مافى الموضوع هو أن يدرك الجميع أن التأثير السيىء لارتفاع تكلفة التأمين على الديون المصرية لا يكون على أصحاب الياقات البيضاء فقط من كبار المستثمرين ورجال الأعمال ومليارديرات البورصة فى مصر. فعلى العكس من ذلك، يتحمل عبء ارتفاع التكلفة كل مواطن فى مصر، فيظهر أثر ذلك فى ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه وتزايد الضغوط التضخمية لأننا نستورد الكثير جدا مما نستهلك وندفع ثمن ما نستورده ــ حاليا ــ بالاقتراض من الخارج. فإذا زادت تكلفة الاقتراض كنتيجة طبيعية لارتفاع تكلفة التأمين على القرض، فلابد أن ينعكس ذلك على سعر المنتج النهائى الذى نشتريه جميعا، من أول رغيف الخبز مرورا بأغلب ما نأكل ونشرب ونلبس، وحتى الدواء والمسكن وغيرها من الضروريات، لا الكماليات وحدها. كما أن ارتفاع تكلفة الدين يؤدى بالضرورة إلى عزوف أصحاب الشركات والأعمال عن التوسع وبالتالى تقل فرص التوظيف فى الدولة وتزداد البطالة. ومع ارتفاع الاسعار وانتشار البطالة لابد أن نشهد الانفلات الأخلاقى ولا اظن أن أحدا لم يلحظ ارتفاع معدلات السرقة والجرائم بصورة لم تشهدها مصر من قبل، ومن ينجو من ذلك من فقراء هذا البلد سيقع فى أغلب الظن فى براثن التطرف الدينى وكل ما سبق ينذر بقرب انهيار الدولة.

 

أسواق المال لا ترحم، والمقرض أو المستثمر الأجنبى لا ينتظر حتى يستطيع رئيس الوزراء وحكومته أن يدخلوا إلى مكاتبهم، بل هم يحملون حقائبهم ويرحلون ولا يعودون الا بعد أن تستقر الأمور تماما، ولا عزاء لمن لم يستطيعوا أن يوفقوا أوضاعهم قبل فوات الأوان. أخواننا فى تونس أدركوا ذلك جيدا، ووجدنا رئيسهم المنتخب يحذر بمنتهى الوضوح بعد أسبوع واحد من انتخابه من الاعتصامات وسد أبواب المؤسسات الاقتصادية وقطع الطرق المؤدية اليها فى تونس ويصفها بأنها أصبحت «عمليات انتحارية قد تؤدى بالبلاد إلى الغرق» كما أوضح لنا أن «النظام الديمقراطى مهدد بالموت إن لم تعد الماكينة الاقتصادية إلى الدوران» واصفا من يعطل دورانها بأنه «يطعن التوانسة فى الظهر».

 

●●●

 

هى إذن ليست دعوة لإيقاف الاحتجاجات أو الاعتصامات من أجل عودة عجلة الإنتاج وغيرها من الاسطوانات المشروخة التى سئمها الشعب بفئاته المختلفة، وإنما هى صرخة تحذير من المسار الذى تسلكه الدولة المصرية الجديدة. فرغم علمى التام أن كثيرا من إنجازات الثورة التى تمت حتى الآن لم يكن ليتحقق لولا خروج واعتصام الشباب ولولا دماء من سالت دماؤه منهم ولولا الضغط على كل من بيده السلطة الآن. إلا أننى أدعو إلى تعليق كل الحركات الاحتجاجية لمدة ستة أشهر فقط، تنتهى خلالها الفترة الانتقالية، ويتم بعدها البدء فى مراقبة تصرفات الحكومة ومحاسبتها. فلقد أصبح الكثير من الاحتجاجات والاعتصامات وقطع الطرق فى نظر الكثيرين عبثيا، وقد يكون له أسبابه بعد طول سنوات الفساد والإذلال، إلا أنه يتعين على الجميع أن يعى خطورة الوضع الحالى وهو ما يفرض علينا الاستماع إلى صوت العقل. فالثورة مستمرة، وسنخرج جميعا إلى الميدان عندما يخرج القطار عن مساره المنشود. أما أن نمنعه من التحرك أساسا إذ ربما يخرج عن مساره فى المستقبل فهذا هو الجنون بعينه.

 

ارحموا الـ(سى. دى. اس) يرحمكم الله...

شريف عثمان مصرفي مصري
التعليقات