الخوف والطمع وسلوكيات القطيع فى أزمة الجنيه - شريف عثمان - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 4:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخوف والطمع وسلوكيات القطيع فى أزمة الجنيه

نشر فى : الخميس 17 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 17 يناير 2013 - 8:00 ص

بدأت الأزمة عندما تراجعت الحكومة عن قرارات بزيادات ضريبية ضرورية لعلاج عجز مزمن فى الموازنة العامة للدولة، وبداية لعلاج خلل هيكلى فى الاقتصاد المصرى. جاء التراجع نتيجة لوجود مئات الالاف فى الشوارع فى ذلك الوقت بصورة أربكت حكومة هى أصلا مرتبكة لأسباب معروفة للجميع، مما استدعى التراجع عن القرارات ــ ولو تحت عنوان التأجيل ــ وذلك حتى الانتهاء من الأزمة الجارية وقتها.

 

ترجم المحللون قرار التراجع على أنه مؤشر على عدم استطاعة الحكومة تقديم برنامج اصلاح وتخفيض لعجز الموازنة، تستطيع به أن ترضى صندوق النقد، وتضمن به الحصول على القرض الشهير، فطلب البنك المركزى تأجيل قرار مجلس ادارة الصندوق والذى كان مقررا له 19 ديسمبر، وذلك لاستحالة موافقة الصندوق فى ظل الوضع السياسى الملتهب وقتها. ولاحظ ان قرارات الزيادات الضريبية، وإن كانت النية مبيتة لاستخدامها فى اقناع الصندوق بأهليتنا للحصول على القرض، الا أن هدفها الرئيسى هو تخفيض العجز الدائم فى الموازنة العامة للدولة، حتى لو لم نحصل على قرض الصندوق.

 

أما المتلهفون على اسقاط النظام، والمتشوقون لإحداث الفوضى، وأقطاب الثورة المضادة، وفلول النظام السابق فرأوها فرصة عظيمة لإشعال واحدة من أقوى الحروب على الثورة المصرية فى صورة موقعة جمل اقتصادية، فبدأت الماكينات الاعلامية وأجهزة الاتصالات فى بث ونقل رسائل متعددة مفادها أن الاقتصاد المصرى على شفا الانهيار، وأن مصر مهددة بالافلاس، وأنه يتعين على الجميع أن يسارعوا لسحب ودائعهم من البنوك حتى لا تضيع عليهم، بل ووصل الأمر إلى التأكيد ــ من خلال تلك الحملات الإعلامية ــ على أن «الإخوان المسلمين» قد استولوا على احتياطى النقد الأجنبى الموجود لدى المركزى (وكأنه موجود بالفعل داخل المبنى فى شارع الجمهورية أو فى وسط البلد) وكانت الدعوة من الركن الهمام فى مخبأه بأمريكا بضرورة نزول الجميع لحماية البنك المركزى المصرى والبنوك الوطنية قبل استيلاء الاخوان عليها!

 

إلا أن سفاهة الدعوة، وضحالة فكر أصحابها أدت إلى عدم نجاحها والحمد لله، والا كانت مصيبة كبيرة على الاقتصاد المصرى (هى بالمناسبة مصيبة على أى اقتصاد فى العالم) أن يتجه الجميع لسحب ودائعهم وأرصدتهم من البنوك فى وقتٍ واحد. لكن، ولأن ليس كل أعدائنا بنفس السفاهة والضحالة فى الفكر، فقد برزت فكرة أخرى روج لها بعض المرضى، وهى أن العملة المصرية فى طريقها للانهيار، وأن الدولار ستصل قيمته إلى عشرة جنيهات أو أكثر فى غضون أيام قليلة. وتم الترويج للفكرة بصورة كبيرة حتى رأينا الآلاف يتكالبون على البنوك يطلبون شراء الدولار وبيع ما يملكونه من جنيهات مصرية، وكان ذلك خلال الأيام العشرة الأخيرة من ديسمبر 2012.

 

تحرك هؤلاء لشراء الدولار كان تسليما منهم (أو تمنى) بأن الاقتصاد المصرى قد انهار بالفعل، وأن العملة المصرية فى طريقها إلى الزوال، أو إلى فقدان الكثير من قيمتها مقابل العملة الأمريكية، وتناسى هؤلاء (أو تجاهلوا) حقيقة أن مسئولية انهيار الاقتصاد لا تقع على الحكومة فقط وانما يتحمل وزرها كل مواطن، بداية من أدائه لعمله باخلاص، مروراُ بتوعية أبنائه وجيرانه ومن حوله ان كانوا لا يعلمون، ووصولا لعدم بيع العملة المحلية وشراء الأجنبية إلا لضرورة، وقبل كل ذلك استيعاب حقيقة أن الغضب من الإخوان وادارتهم للدولة وعدم الموافقة على وصولهم للحكم لا يسمح ــ بأى حال ــ بأن نعمل على اغتيال الاقتصاد المصرى من اجل «إحراج» الإخوان وازاحتهم عن الحكم.

 

تكالب المصريين على شراء الدولار خلال تلك الفترة (اشتروا ما يزيد على 350 مليون دولار فى كل يوم من أيام الأسبوع الرابع من ديسمبر) أدى إلى أن يقرر البنك المركزى فى اجتماعه بكبار المسئولين فى البنوك المصرية يوم السبت 29 ديسمبر 2012 تطبيق آلية التعويم المدار managed float، والتى سمحت للدولار أن يصل الى 6.57 وقت كتابة هذه السطور، وكان السبب الرئيسى أن آلاف المواطنين قد اندفعوا ــ يحركهم الخوف والطمع وسلوكيات القطيع ــ لشراء الدولار، فى محاولة منهم للقفز من مركب العملة المصرية قبل غرقها. ولاحظ هنا الحالة النفسية للمتعاملين فى تلك السوق، فالذى اشترى الدولار عندما كان سعره 6.20 تمنى أن يراه عند مستوى 6.50 والذى اشتراه عند مستوى 6.50 يتمنى أن يراه بسبعة جنيهات وهكذا، فأصبح قطاع عريض من المصريين يتمنى أن تضعف عملتهم، وتناسى هؤلاء أن ارتفاع الدولار أمام الجنيه، وإن كان سيحقق لهم مكاسب رأسمالية على مدخراتهم التى حولوها إلى دولار، الا أن ارتفاع أسعار كافة السلع المتوقع مع ارتفاع الدولار سيؤدى بالضرورة إلى فقدان الجزء الأكبر من مكاسبهم، بل وفى الأغلب إلى تحملهم لخسائراضافية، هذا بالاضافة إلى ملايين من الضحايا ممن يحصلون على أجور ثابتة، بينما الأسعار آخذة فى الارتفاع، وسيكون وقتها الحد الأدنى للأجور الذى نسعى جميعا لتحقيقه (750 جنيها أو حتى 1200) لا يكفى لشراء وجبة تكفى غذاءا لأسرة واحدة ليوم واحد، ولنا فى تجارب انهيار عملات بعض بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية عبرة.

 

وتجدر الاشارة هنا إلى ان المواطن الذى يشترى الدولار بغير احتياج (اى للمضاربة والاستفادة عند ارتفاع سعره) لا يختلف كثيرا عن الذى يصمم على شراء المنتجات المستوردة رغم وجود البديل المحلى المقارب له، أو الذى يسافر لقضاء إجازته فى تركيا أو ماليزيا أو غيرها ولدينا الأقصر وأسوان والغردقة وجنوب سيناء، أو الذى يصمم على قضاء الأيام العشر الأخيرة من رمضان كل عام فى مكة والمدينة، أو الذى يحج كل عام أو عاميين على الرغم من اجماع العلماء على أن الفريضة تكون لمرة واحدة فقط.

 

ولا أعفى الحكومة من المسئولية، فبسهولة يمكن تنظيم عمليات السفر وأيضا عميات الاستيراد غير المنضبطة. فكيف لدولة تترنح عملتها أن تسمح باستيراد طعام الكلاب والقطط وغيرها من المنتجات التى يمكن بقليل من الترشيد فى استيرادها توفير ما يكفى لاصلاح الخلل فى ميزان مدفوعاتنا وانقاذ العملة، الا أن العبء الأكبر يقع على المواطن (او ما يطلق عليه القطاع العائلى). المواطن الذى يذهب بكامل ارادته لينقب عن البضاعة المستوردة عل رفوف «السوبر ماركت» ومحلات الملابس، أو الذى يضارب على عملة بلده أملا فى انخفاضها وتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، وهى مكاسب لا تختلف كثيرا عن تلك التى كان يحققها تجار «القرنص» الذين كانوا يحصلون على خردة جيش الاحتلال الانجليزى ــ بسرقتها او بشرائها بأسعار رخيصة ــ ويبيعونها بأثمان باهظة للشعب المصرى الذى كان يحارب من أجل أن يحصلوا هم على حريتهم. ولاحظ معى أن هؤلاء التجار كانوا يتمنون عدم زوال الاحتلال حتى يتمكنوا من زيادة ثرواتهم الباهظة.

 

الأسبوع الماضى وتحديدا يوم الثامن من يناير، نشرت وكالة رويترز تقريرا عن تأثير تعاملات القطاع العائلى على انخفاض قيمة الجنيه المصرى، أشارت فيه إلى أن عبء منع انهيار الجنيه المصرى الآن يقع على عاتق القطاع العائلى، وأن المستثمر الأجنبى يراقب البيانات التى توضح نسبة مكون العملة الأجنبية فى مدخرات القطاع العائلى قبل ان يتخذ قراره الاستثمارى. وأشار التقرير أيضا إلى ان عددا لا يحصى من أزمات الأسواق الناشئة خلال عقود لم يحدث بسبب انسحاب المستثمرين الأجانب من السوق، ولكن بسبب خروج القطاع العائلى والتجارة المحلية من العملة، وهو ما يمثل دورا محوريا فى انهيار عملات البلاد.

 

فى نهاية اكتوبر 2012 مثلت حيازة العملات الأجنبية حوالى 15.5% من اجمالى المدخرات وفقا لبيانات البنك المركزى، ومما لا شك فيه أن هذه النسبة ارتفعت كثيرا خلال شهر ديسمبر وما مضى من أيام يناير بسبب ذعر المصريين وهرولتهم لشراء الدولار خاصة بعد قرارات المركزى الأخيرة ولو استمرت تلك المضاربات من القطاع العائلى، فربما ترتفع تلك النسبة إلى مستوى 33% الذى شاهدناه عام 2004، ويمثل ذلك طلبا اضافيا على الدولار يقدر بحوالى 15 مليار دولار، وهو ما قد يمحو احتياطات البنك المركزى تماما. القصة الآن إذن ليست كم يملك المركزى من احتياطيات النقد الاجنبى، وانما كيف يمكن إقناع الناس بضرورة عدم تحويل المدخرات إلى دولار، فهذا شىء لا يمكن أن يتحمله أى بنك مركزى أو اى اقتصاد فى العالم. ولا احد ينسى أن بعض الدول فى أوروبا الشرقية، ومع فترات تحولها أواخر الثمانيات وأوائل التسعينات، ومع سلوكيات شبيهة بما نشهده حاليا فى مصر، انهارات عملاتها حتى اضطرت تلك البلدان إلى تصدير فتياتها، فى محاولة لحل أزماتها الاقتصادية، عافانا وعافاكم الله.

شريف عثمان مصرفي مصري
التعليقات