صلاةٌ لدفع المستذئبين - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 1:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صلاةٌ لدفع المستذئبين

نشر فى : الإثنين 9 يناير 2017 - 10:20 م | آخر تحديث : الإثنين 9 يناير 2017 - 10:20 م
كأننا فى لوحةٍ لفنان عصر النهضة الإيطالى كارافادچيو، يحز فيها رجلٌ رأسَ أخيه، أو كأننا عدنا أدراجنا إلى جريمة الدم الأولى، وقابيل يمد يدَه ليقتل هابيل ويبوء بالإثم المبين. لكن المفزع فى جريمة الإسكندرية أن القاتل يقتل باسم الله، ويقتل على الهوية، ويقتل شريكه فى الوطن، ويقتله فى الإسكندرية، «مهبط الشعاع المغسول بماء السماء» ــ كما وصفها محفوظ؛ الإسكندرية الندية بنسائم الحضارات، أفقُنا ومتنفسنا الذى كان يوما منفتحا على ثقافة الآخر، وكان مستقَرَ الجاليات الأجنبية المقيمة بأمان وتناغم ٍ على أرض مصر، فى زمان بعيد بعددِ السنين وبتغيرِ الملامح وبتبدلِ الأفكار.

فى زمن الوسائط المتعددة رأينا الجريمة صوتا وصورة: بائع متجول أمى «يطبِق الحد» على صاحب محمصة يبيع الخمور، فى مشهد مروع ينتمى إلى سلسلة المشاهد الجروتسك التى تعرض نفسها علينا كل يوم فى هذا الزمن الكئيب. هكذا إذن لم يعد «التكفيريون» محض وجوه مخيفة شعثاء الشعور، قاسية القسمات، نرى صور جثثهم الدامية بعد مقتلهم على أطراف حدودنا الشرقية، فقد باتوا يسعَوْن بين ظهرانينا كما تسعى الذئابُ المنفردة. لكن هل هم حقا ذئابٌ منفردة أم أننا بصدد مجتمعٍ فى طور التحول إلى الاستذئاب؟

***
تحكى الأسطورة الرومانية أن «كورنفيليوس» كان رجلا نبيلا عاش فى قرية أصابها وباءٌ قاتل أتى على جميع أهلها، لكنه أبقى على السيد النبيل، وأكسبه مناعة غير عادية، أورثها أبناء ثلاثة رُزق بهم بعد النجاة. الأول عضه خفاشٌ فصار مصاصَ دماء، والثانى عضه ذئبٌ فصار مستذئبا، والثالث فر وحيدا ليستنقذ إنسانيته الفانية.

***
عن المستذئبين تحدث أطباءٌ قدامى مثل الطبيب اليونانى «مارسيليوس»، وعلماءٌ من ذوى الرصانة مثل «ابن سينا» و«الزهراوى»، فوصفوا مريضا كثيف الشعر، عريض الجبهة، يأكل اللحم النيئ ويخشى الضوء ويعوى عند اكتمال القمر بدرا. وهى ادعاءات عجائبية لم تثبت علميا أوُردها للطرافة ولا أصدقها.

لكن الأسطورة قد تصلح لوصف الحالة التى وصلنا إليها، فهى مجاز مرسل عن مجتمع يتنازعه أرباب الفساد والجهل والظلم الاجتماعى والسياسى والغلاء الفاحش الذين أفرزوا ظاهرة التطرف. إذ أحسب أن التطرفَ ليس إلا إعلانا عن أزمة فى الشرعية السياسية تراكمت، وإخفاقات فى التنمية الاقتصادية تفاقمت، قبل أن يكون ترجمة ضالة لنصوص عقائدية.

إن عادل عسلية، قاتل التاجر القبطى، لا يختلف كثيرا عن محمد ناجى محمد مصطفى، الشاب الذى حاول قتل نجيب محفوظ. كلاهما مستذئبان عضهما الجهل، وفاتهما قطار التعليم، وأسلمتهما البطالة للأفكار الظلامية، وتلقفتهما قياداتٌ تنامت فى ظلمات سجون القمع، قيادات ربتهما فيمن ربت على كراهية الآخر، واستثارت فيهما الحقد على سلطة «كافرة»، والاستعلاء على مجتمع «جاهلى».
وأحسب أن عادل عسلية لم يكن فى قرارة نفسه حانقا على صاحب البقالة لأنه كان يبيع الخمور، بل لأن عسلية لم يكن قادرا ربما على شراء كيس سكر أو زجاجة زيت. لكن اليد التى تقتل تحتاج من صاحبها أن يهيئ لها ذرائعَ تسكِن الضمير وتُسوِغ القبيح.

***
هكذا نمضى حسبما تقول الأسطورة، بين مصاصى دماء يمتصون دماء الناس، ومستذئبين يأكلون لحمهم نيئا، وبشرٍ يحاولون الفرار خارج جزرِ اليأس المتفاقم كل يوم من تلبية أبسط متطلبات الحياة. يستبشرون إذا ما هل عليهم القمر، وهم لا يعلمون أن مطلعه لا يبعثُ إلا مزيدا من العواء.

***
لأجل هؤلاء، ممن تمسكوا بإنسانيتهم، استرجع دعاء كان قد كتبه علم 1763 الفيلسوف الفرنسى ﭬولتير ــ الذى اتُهم هو الآخر فى دينه، قال فيه:

«إلهى، ما خلقتَ لنا قلوبا كى نتباغض، وما جعلتَ لنا أيادٍ كى نتقاتل، فهيئ لنا التعاونَ على تحملِ عناءَ هذه الحياة الشاقة العابرة، وأما تلك الاختلافات البسيطة فى ملابسنا، وألسنتنا، وعاداتنا، وشرائعنا، وطوائفنا، فلا تجعلها بيننا سببا للكراهية والاضطهاد، ليتسع صدرُ من يضيئون الشموعَ فى عز الظهيرة تقربا إليك لأولئك الذين اكتفَوا بضياءِ شمسِك؛و ليُعرضْ من اتشحوا بالأبيض محبة لك عن كراهيةِ من ارتدَوا الأسود تعبيرا عن المحبة ذاتها؛ ولينتفى يا إلهى الكِـبْرُ من أفئدةِ الأغنياء، والحسدُ من أفئدة الفقراء، فما تلك المظاهر الدنيوية إلا هباء. وليذَكَرْ بنو آدم أنهم إخوة، فيأنفوا ممارسةَ الطغيان على الأرواح بقدر ما يأنفون اللصوصيةَ وقطع الطريق. ولئن كان لا مناص من آفات الحرب، فلتهبَنا يارب حكمةَ النأى عن التناحر إذا ما حل السلام، لتجعلنا نغتنمُ لحظاتَ العمر فى تسبيحك بآلاف اللغات، وفى ذكرِ آلاء كرمك الذى أفاض علينا بتلك اللحظات».

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات