أمانة الكلمة وأدب الحوار - أحمد كمال أبو المجد - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 9:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمانة الكلمة وأدب الحوار

نشر فى : السبت 9 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 9 فبراير 2013 - 8:00 ص

فى مصر، وعلى امتداد العالمين العربى والإسلامى حوار موصول الحلقات منذ أكثر من خمسين عاما، تشارك فيه خاصة المثقفين والمشتغلين بأمور السياسة والحكم، منهم من ينتمى إلى أحزاب وجماعات يتحدثون باسمها ويدافعون عن مقولاتها وبرامجها، ومنهم من يقف وحده ممارسا لحقه فى التعبير، ومؤديا لواجبه الوطنى بالمشاركة فى إدارة الحاضر، وصنع المستقبل.

 

وبعد قيام الثورة، ومشاركة المنتمين إلى أطياف مختلفة ومتنوعة فى الدفاع عنها وحراستها والسعى لتأمين مسارها، بدا واضحا أن توافق هؤلاء جميعا حول أفضل المسارات.. لا تبدو بشائره قريبة ولا مبشِّرة وأن ممثلى هذه الفصائل والأطياف يسعى كثير منهم إلى الانفراد بتوجيه الحاضر ورسم خريطة المستقبل، وأن خارطة الطريق القومية.. تخلى مواقعها يوما بعد يوم للفرقاء المتفرقين الذين يسعى كل فريق منهم إلى تحويل رؤيته وخارطة الطريق التى يؤمن بها، إلى خارطة تنفرد بصنع الحاضر وتحديد وحدها صورة المستقبل.

 

ومن هنا عاد حديث «الحوار الوطنى» ليشغل من جديد جميع المنابر وساحات العمل، وأدوات الإعلام الحكومى والشعبى.

 

وكان لابد للصدام والمواجهة أن يظهرا على سطح حياتنا الثقافية والسياسية.. واكتشف الجميع أن كثيرا من القضايا المصيرية لايزال معلقا بين أطرافه لم يحسمه هذا الجيل ولا الجيل الذى سبقه، وأن الحوار الجديد حوله يوشك بدوره أن يُحدث انقساما جديدا فى جسد الأمة تضيع معه كثير من فرص البناء والنهضة وتحقيق التقدم.

 

من هنا كانت مناقشة المفردات الأساسية لأدب الحوار مقدمة ضرورية لا غنى عنها فى المرحلة التى نعيشها من مراحل التطور المجتمعى والسياسى الذى نريده سعيا لتحقيق أهداف هذه الثورة.

 

ومن الغريب والمحزن أن أمتنا العربية كانت منذ أكثر من عشرة قرون من أوائل الأمم التى تحدث علماؤها ومثقفوها عما سموه «أدب المناظرة» وأن فى تراثنا الثقافى عديدا من المؤلفات الرائعة التى تترجم هذا الأدب الحوارى «إلى منهج منضبط» هو ما نسعى ــ من خلال هذه السطور ــ إلى تجديد الوعى بمفرداته وتجديد الالتزام بتلك المفردات من جانب النخبة المثقفة حتى تصبح مؤهلة لقيادة ثورة ثقافية موازية لا يستغنى عنها العمل الثورى فى شئون السياسة والحكم.

 

والواقع أن كلمة «الأدب» تحمل ــ فى ثقافتنا العربية ــ معنيين متكاملين.. أولهما معنى علمى وفنى يتعلق بتفعيل الحوار وضبط منهجه.. أما المعنى الثانى فهو معنى أخلاقى تظهر الحاجة إليه هذه الأيام ظهورا متجددا وهو المعنى الذى سميناه «أمانة الكلمة» و«أدب الحوار».

 

ذلك أن مئات السنين فى ظل نظم للحكم توشك أن تُقدس الحاكم وتعبده.. وتقهر المحكومين وتستبد بهم ثم تنفرد بتحديد مصيرهم.. هذه السنين الطويلة تجعلنا حريصين اليوم على رفع الصوت عاليا.. داعين إلى اتباع المنهج العلمى الموضوعى فى تنظيم الحياة السياسية والدستورية والمجتمعية.. وداعين كذلك إلى الالتزام الصارم «بأمانة الكلمة» التزاما أخلاقيا ينبغى أن يتحول إلى جزء أساسى من أجزاء العقيدة السياسية لكل المصريين وجميع العرب والمسلمين.

 

وهذه السطور لم تجد سبيلها إلى النشر والعلانية إلا بعد أن رأينا ــ عن قرب شديد ــ أسباب القلق والإشفاق والحزن ــ فى مجمل حوارنا الواسع حول قضايانا المشتركة.

 

إن أول أركان الحوار حول قضايا الوطن المصيرية هو «ركن النية والقصد»، بأن يمارس جميع المشاركين فى هذا الحوار ضغطا لابد منه على نوازع الفردية وأهواء الاستئثار.. وأن تكون «خارطة الطريق الوطنية» التى يلتزم بها الجميع خارطة قومية حقيقية تعلو عند التعارض فوق خرائط الطريق التى تخدم فصيلا أو فصائل محدودة من المواطنين.

 

إن تأخر الوصول إلى حل عملى حاسم لهذا التناقض من شأنه أن يعوق مسيرة الإصلاح بجميع عناصرها وأن يُضعف مقاومة المجتمع كله لأخطار الهزيمة أمام قوى أكثرها خارجى وبعضها تمت زراعته فى غفلة منا داخل كياننا وفى علاقتنا بشركائنا فى الوطن وفى مستقبله الواحد.

 

إن تحقيق هذا الذى أسميه «استرداد الوعى الوطنى» رهن بالتربية والتعليم والتدريب على عناصر «الوعى المجتمعى الجديد» وفى مقدمتها الأقانيم الثلاثة التى رفعتها طلائع الثوار فى أيام الثورة الأولى وهى:

 

المشاركة السياسية للجموع الشعبية بعيدا عن الترغيب والترهيب، ومن خلال مؤسسات مدنية تختارها القوى الشعبية.

 

احترام الحرية فى مجالاتها المختلفة، وإحاطة ممارستها بالضمانات السياسية والقانونية والتربوية التى تحولها من شعار يتصايح به الجميع إلى «ركن الأركان» الحى والفاعل فى جنبات المجتمع كلها.

 

سيادة القانون الذى يعلو سلطانه على كل سلطان والذى يتم من خلاله تعزيز سائر الضمانات وتحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع، وارتفاع «القاعدة القانونية» فوق مصالح الفئات والأحزاب والجماعات.. وفوق الأهواء الفردية التى تمثل الخطر الدائم والداهم على الحاضر وعلى المستقبل كله.

 

ويبقى أن الكلمة الأمينة تحتاج إلى ضمان إجرائى مهم وفعال يتعلق «بلغة الحوار» وطريقة إدارته وهو أن تكون لغة هذا الحوار لغة تقريب وتوحيد لجميع أطرافه.. وأن نودع إلى غير رجعة أساليب الإقصاء والتهميش والسعى للانفراد والاستئثار، وما يصاحب هذه اللغة من استباحة الكرامات والأعراض، والتدنى فى استعمال كلمات الإهانة والتجريح، وإجازة الكذب وإخراج الكلمات من سياقها إلى حيث تشكل اغتيالا معنويا لمن يشغلهم العطاء للمجتمع ولشركاء الثورة عن استخدام الوقت المتاح فى دفاع شخصى ليسوا محتاجين إليه، ولن يتم أبدا إلا بخصم ما أنفق فيه من جهد ووقت من حسابات المصالح العليا لمصر كلها.

 

وليتنا جميعا ندرك أهمية أن أى حجة نسوقها ودليل نستند إليه لابد أن تصاحبهما على وجوهنا «بسمة صادقة» هى رسول ودٍ صادق تخاطب به الآخرين ونحرص عليه.. وهى أول محفز فعال للعمل والإنجاز وأنها شرط أساسى من شروط نجاح السعى للتقدم والنهضة.

 

أما التجهم فى وجوه الآخرين، واختلاس أسباب زائفة لاستبعاد هؤلاء الآخرين من الساحة سعيا إلى الانفراد بها، هذا التجهم وذلك الاستبعاد هو النذير بوقوع الشقاق والصدام وضياع كل فرص الإصلاح.

 

إن كثيرا من الأقلام التى كان يرجى عطاؤها على طريق النهضة قد حالت بينها وبين أداء هذا الدور الوطنى الذى تشتد الحاجة إليه هذه الأيام.. قد توزع كثير منها بين أحوال ثلاثة لا ندرى أيها أشد خطرا وأشد عوجا:

 

الحال الأولى حال الخوف والذعر من التعرض لظلم لا يملك المتعرضون له وسيلة فعالة لدفعه.

 

الحال الثانى حال الطمع الشديد والإصرار على الانفراد.. وهو طمع يشتد إغراؤه وُيحدث فى المجتمع حالة خطيرة من حالات ضعف المقاومة فى مواجهة الخصوم والأعداء.

 

أما الحال الثالى فهو حالة الغضب الذى يحرق العقل وقد يدفع أصحابه إلى اعتزال المجتمع، والتوقف عن تعزيز الانتماء إليه.. وعلاج هذه الحالة الثالثة، أن نتواصى جميعا بالتوافق الذى يقوى مسيرة الثورة والإصلاح الذى ندعو إليه، وأن نتوقف ــ على الفور ــ عن تبادل الانتقاص وتبادل الاتهام.

 

إننا نكتب هذه السطور، وفى الحلق غُصَّة، وفى العقل قلق كبير مشروع، وفى القلب حزن لا نحب له أبدا أن يستقر أو يدوم، بعد أن تعرض كثير من الشرفاء لعدوان وتنكر مؤسف من مواقع وأفراد كنا نظن أنه يجمعهم جميعا خندق واحد وأنه يجمعنا جميعا حرص صادق على حراسة الثورة وخدمة الشعب ــ كل الشعب ــ دون أن ينتظر أحد من أحدٍ جزاء ولا شكورا، وماذا يجدينا أن تحيط الأهواء بمساعينا، وأن يتفرق جمعنا ونحن نكتفى برفع شعارات لفظية تكذبها كثير من مواقفنا وأعمالنا، ومع ذلك فإن من الحكمة ألا يستغرقنا أو يستهلك ما بقى من طاقتنا تبادل اللوم والتشكيك فى النوايا وتشويه صورة جميع الآخرين، ولعل الشىء الوحيد الذى يصلح بداية فعالة لتجاوز مرحلة التشكيك والاشتغال بعيوب الآخرين أن نتذكر مثالين يضيئان لنا أول طريق الخروج السريع من هذا النفق المسدود.

 

أما أولهما: فقولُ شعبى كنا فى صغرنا نسمعه من إخوتنا وأخواتنا أبناء الصعيد، ونصه (بالعامية الفصحى): «ما تعدش الشين، ده الشين كتير، عِد الزين».. وترجمته إلى العربية الفصحى: «لا تشتغل باستعراض السلبياب وأسباب الإحباط، ولكن تذكر الإيجابيات والإنجازات».

 

وأما الثانى: فأبيات من قصيدة رائعة لأمير الشعراء أحمد شوقى أطلقها فى العشرينيات من القرن الماضى تحت ظلال أزمة سياسية ومجتمعية عظيمة الشبه بما نحن فيه هذه الأيام من اختلاف يقوض وحدة النسيج الوطنى ويكاد يشق المجتمع كله إلى شقين متناقضين.. يقول فيها:

 

إلام الخُــلـــف بـيـنـكـمـو إلامــــا ..  وهَذى الضجةُ الكبرى علاما

 

وفيما يكيد بعضكمو لبعض ..  وتـبـدون العـــداوة والخـصـــامـــــا

 

شبـبتم بينكم فى القطر نــارا  ..  على محـتـله كــانــت ســـــــلامـــا

 

ترامـيــتم فقــال النــاس قــــــــوم  ..  إلى الخـذلان أمرهــمو ترامى

 

وأين الفوز لا مصر استقرت  ..  على حالٍ ولا السـودان دامـــا

 

ثم يخاطب (رحمه الله) الشهيد البطل المجاهد مصطفى كامل قائلا:

 

شـهـــيد الحـق قـم تــره يـتـــيما  ..  بأرض ضُيعت فيها اليتامى

 

أقام على الشـفاه بها غريـبا   ..  ومر على القـلوب فـما أقامــا

 

ترى: إن لم تُفلح دعوتى لتحقيق التوافق والتساند، فهل تفلح دعوة أمير الشعراء التى أُكررها فى كل مناسبة وفى غير مناسبة.

أحمد كمال أبو المجد مفكر اسلامي وفقيه دستوريالنائب السابق للمجلس القومي لحقوق الإنسان
التعليقات