«إسلام بلا حرج».. «وتدين بغير قلق» - أحمد كمال أبو المجد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«إسلام بلا حرج».. «وتدين بغير قلق»

نشر فى : الثلاثاء 12 مايو 2015 - 9:15 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مايو 2015 - 9:15 ص

• الإسلام لا يجعل من المسلمين شعبـًا محاصرًا داخل نفسه ينعزل فى جزيرة شعورية وعقلية نائية عن سائر الأمم والشعوب ويشغل عمره كله بالحديث عن أمجاد أسلافه

• إذا رأينا اليوم من يرفع رايات الإسلام ثم يقدمه بعد ذلك للناس نظامـًا صارمـًا يكلفهم بما لا طاقة لهم به.. فلنعرف معرفة اليقين أننا إزاء علم ناقص وعقول فسد منهجها

• أين هذه الدعوة إلى العزلة والإنسحاب من سيرة النبى الذى أوصى خيرا بالنصارى وعاهدهم ووفى لهم وبر بهم.. وعلمنا أن البر لا ينحصر فى زمان أو مكان

• ليس من حق أحدٍ أى أحد أن يضع الناس أمام خيار ظالم بين تدين يملأ حياتهم عبوسا وحرجا ويضع على حريتهم ألف قيد وقيد.. وبين إنطلاق يكفل لهم البهجة والحرية والراحة بعيدا عن الدين

هذا الحديث تجديد لدعوة توجهت بها إلى القراء منذ نحو عشرين عاما فى مقال عنوانه «إسلام بلا حرج»، وكان الدافع إلى كتابته حينذاك إحساس لا يزال يتملكنى بأن كثيرا من مسلمى هذا الزمان يحتاجون إلى إنقاذ سريع من عواقب فهم خاطئ للإسلام، ولما ينبغى أن تكون عليه حياتهم كلها وعلاقة بعضهم ببعض وبسائر الناس من حولهم فى إطار تعاليمه ونظامه الأخلاقى.. وهو فهم أوقعهم فيه تفسير بعض الغافلين عن مقاصد الإسلام الكبرى، والمجترئين على الفتيا باسمه فى أخطر شئون الحياة، ممن ملأوا حياة الناس باسم التدين مشقة وعناء وحرجا وحولوها إلى عسر وعنت.. حتى استقر فى وهم كثير من الناس أن الإسلام سلسلة لا تنتهى حلقاتها من القيود والموانع والأغلال، لا يكاد المسلم يخطو تحت وطأتها الثقيلة خطوة بريئة هنا أو هناك إلا صاح فى وجهه صائح غاضب بأنه أخطأ وأثِم وابتعد عن سبيل المؤمنين وأنه قد دخل بذلك فى زمرة العصاة والفاسقين.

ولقد عاودنى خلال السنوات الأخيرة إحساس غامر بأن أمر هذا الفهم الخاطئ للإسلام أمر جسيم، لا يجوز تجاهله والسكوت عن تصويبه وأن هذه الصورة التى اتخذها التدين الإسلامى حتى صارت غالبة على غيرها من الصور قد أصبحت تمثل اليوم خطرا على مستقبل المسلمين، وأن التنبيه إلى عناصر الخلل التى تملؤها.. والتوجه إلى الصورة الصحيحة للتدين الإسلامى المستمدة من مجموع النصوص القرآنية والنبوية، ومن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم.. والتى تجعل الإسلام كما أراده ربنا، رحمة للناس جميعا ومنهجا لاقتراب بعضهم من بعض وتعاونهم جميعا على البر والخير وكل ما ينفع الناس، هذا التنبيه قد أصبح فرض عين على كل باحث مجتهد بصير بأوضاع المسلمين.

وفى الظلال القاتمة لمثل هذا الارتباك الفكرى والسلوكى لا يمكن أن تنطلق الأمة لأداء رسالتها وبناء حضارتها الإنسانية التى سنظل نعلن ــ فى إصرار ــ أنها تحمل للدنيا بشائر خير كبير ونفع عميم.. وأنه لن يمكن لأفراد هذه الأمة، ما لم يفهموا هذه الرسالة على وجهها الصحيح، أن ينعموا بحياة سوية تغمرها البهجة ويسودها الرضا، وتشيع فيها مشاعر الاطمئنان والسعادة التى لا تزدهر حياة الناس ولا يغزر عطاؤهم إلا تحت ظلالها المشرقة.

وللواقعين فى أسر هذه التصورات الظالمة الخاطئة، ولكل من قدموها لهم وصوروها على أنها رسالة الإسلام.. لهؤلاء جميعا نوجه هذا الحديث:

ذلك أن الإسلام الذى أوحى به الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا، متمما لرسالات السماء، ومصدقا لما بين يديه من الكتاب.. قد جاء رحمة للناس وعونا لهم، يخفف عنهم، «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم» لا يكلفهم إلا ما يطيقون ولا يأمرهم بما لا يستطيعون، ولا يضع بينهم وبين طيبات الدنيا وزينتها ومتاعها حجابا مانعا أو سورا غير ذى باب.. ثم هو لا ينتظر منهم أن تكون حياتهم كلها صرامة وجدا أو أن يكونوا مع نفوسهم على الدوام فى لوم وتأنيب وإحساس بالإثم لا ينقطع ولا يزول.. وإنما «ساعة وساعة» و«إيغال فى الدين برفق»، لأن «المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع» ولأنه «هلك المتنطعون». ولأن الله سبحانه «لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» قائلا لنا جميعا بلسان الوحى «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم.

ولو كان المقام يحتمل التفصيل لوضعنا بين يديك أيها القارئ العزيز قائمة طويلة بالنصوص القطعية التى تقرر هذه المبادئ الكبرى، ولكن حسبنا منها نصوص قليلة واضحة لا تحتمل التأويل من شأنها أن تضع أقدامنا جميعا على أول طريق الفهم الصحيح.

1ــ «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (سورة البقرة الآية رقم 185).

2 ــ «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا» (سورة القصص الآية رقم 77).

3 ــ «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» (سورة البقرة الآية رقم 286).

4 ــ «هو إجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج» (سورة الحج الآية رقم 78).

5 ــ «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» (سورة طه الآيتين رقمى 1، 2).

6 ــ «قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق» (سورة الأعراف الآية رقم 23).

7 ــ «روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت» (حديث شريف).

والإسلام – بعد هذا – لا يجعل من المسلمين شعبا محاصرا داخل نفسه، ينعزل فى جزيرة شعورية وعقلية نائية عن سائر الأمم والشعوب، ويشغل عمره كله بالحديث عن أمجاد أسلافه، ولوم الآخرين والمبالغة فى التحذير من متابعتهم أو التواصل معهم.. وإنما جاء خطاب الإسلام – منذ اللحظة الأولى – موجها إلى الناس – كل الناس – من «ملك الناس إله الناس» إذ الخلق فى ميزانه «كلهم عيال الله» كما يقول الحديث الشريف، والحكمة فى – علمه ومشيئته – موزعة بين سائر الأمم والشعوب، وهى ضالة المؤمن «أنى وجدها فهو أحق الناس بها»، واختلاف الناس الذى نراه هو – فى شريعة الإسلام – مدخل للتواصل والتعارف وتبادل الخبرة والتجربة، والتسابق إلى الخير الذى ينتفع به صاحبه وينفع به الناس «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات»(سورة المائدة الآية ٤٨ ).. والمسلم السوى – فى رؤية الإسلام – رحمة مهداة إلى الناس، يألف ويؤلف، ويزور ويزار، ويبدأ بالود، ويسبق بالفضل، ويدفع بالحسنة السيئة، ويقرئ السلام على من يعرف ومن لا يعرف.. والأمانة التى يحملها المؤمنون – فى هذا الزمان وفى كل زمان – ليست موجهة للخلاص الفردى الذى يقفز به صاحبه وحده قفزا إلى جنات النعيم، وإنما هى – كذلك – موجهة للخلاص الجماعى الذى يتم به عمران الدنيا ونماء ثمراتها بإبداع العقول، وتفتح المشاعر والحواس، وعمل السواعد، واكتشاف المجهول.. عبر مسيرة تحرسها منظومة من القيم الحافظة لجوهر الخير فى علاقات الناس بالناس، وهذا هو جوهر «الهداية» التى بُعث بها الرسل ونزلت لإعلانها وتثبيتها الكتب الموحى بها من رب الناس.

وهذا – بدوره – ليس تفسيرا ننفرد به، ولا هو تأويل متعسف لبعض النصوص. وهنا – أيضا – نكتفى بإيراد نصوص ثلاثة تشهد – فوق كل مماحكة أو جدل عقيم – لجوهر ما نقول به وندعو إليه :

1ــ «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (سورة الحجرات الآية رقم 13).

2 ــ « ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولىٌ حميم» (سورة فصلت الآية رقم 34).

3 ــ «إن من أحبكم إلى وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة الموطئون أكتافا الذين يألفون ويؤلفون» (حديث شريف).

4 ــ ويتوج هذه النصوص كلها قوله سبحانه « شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِينِ مَا وَصَى بِهِ نُوحا وَالَذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلا تَتَفَرَقُوا فيه. (سورة الشورى آية 13).

فإذا رأينا اليوم من يرفع رايات الإسلام، ثم يقدمه بعد ذلك للناس نظاما صارما يكلفهم بما لا طاقة لهم به، ولا يكاد يخرجهم – بزعمه – من قيد حتى يردهم إلى قيود جديدة أشد قسوة، ويشيع فى حياتهم كلها ألوانا من الجهامة والحزن، وإذا رأينا نفرا من هؤلاء لا يخير أحدهم بين أمرين إلا اختار أعسرهما، ولا يسأل عن أحد إلا بادر باتهامه والإنكار عليه وإساءة الظن به.. فلنعرف معرفة اليقين أننا إزاء علم ناقص، وعقول فسد منهجها، وصدور ضاقت بأصحابها وأن أمثال هؤلاء محجوجون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليسوا – بما يزعمون – حجة على أحد.. وإلا فأين سمت هؤلاء المشددين المعذبين لعباد الله من سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان حقا وصدقا – رحمة مهداة.. وأين هذا التجهم البغيض من الفة صلى الله عليه وسلم ورفقه ورقته وكثرة تبسمه فى وجوه الناس أجمعين حتى لا تجد زوجته وصاحبته عائشة رضى الله عنها فى وصفه خيرا من أن تقول: «كان هينا لينا بساما وكان أرق الناس».. ثم تقول: «ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فقد كان أبعد الناس عنه».

ثم أين هذه الدعوة إلى العزلة والانسحاب، من سيرته صلى الله عليه وسلم فى قومه ومع الناس جميعا فقد كان كما كان الرسل من قبله – يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، وكان كما وصفه كتاب سيرته «وسِع الناسَ جميعا بسطُه وخُلقه حتى صار لهم أبا وصاروا عنده فى الحق سواء»، وامتدت علاقات الود والبر التى نسجها له الإسلام لتشمل الموافقين والمخالفين – فى غير عدوان – فأوصى خيرا بالنصارى وعاهدهم ووفى لهم وبر بهم.. وهب واقفا حين مرت به جنازة يهودى، وقال لأصحابه معلما ومؤدبا «أليست نفسا، إذا مرت بكم الجنازة فقوموا» وأكرم أبا سفيان الذى لقى منه المسلمون – فى جاهليته – ما لقوا من العناء والأذى، أكرمه يوم فتح مكة وسوى – فى الأمان – بين داره وبين المسجد الحرام حين قال: من دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن».

بل إنه صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن نقبل الخير والعمل الصالح من كل أحد وأن البر لا ينحصر فى زمان أو مكان، وذلك حين بارك عهدا أُبرم فى الجاهلية، لأنه كان عهد خير وبر ومرحمة وفضل، فقال: «لقد شهدت فى دار ابن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حُمْرُ النعم (أى لا أعدل به شيئا) ولو دُعيتُ به فى الإسلام لأجبت».

إن هذا كلَه ليس جديدا فى شئ، ولكن الجديد أن كثيرا من الناس قد نسوه أو شغلوا عنه بدعاوى بعض من يرفعون شعارات الإسلام ثم يملأون حياة الناس هما وغما وتنغيصا، ويشغلوهم بأمور ليس لها – فى الإسلام – كبير شأن ولا وزن إذا قيست بأركانه وقيمه العُليا ومقاصده الكبرى فى الخلق.. ولقد بلغ اشتغال الناس بهذه القضايا مبلغا يوشك أن يفسد على كثير من المسلمين حياتهم وأن يقعد بهم عن أداء رسالتهم الحضارية التى ابتعثهم الله لأدائها – رسالة الحركة والتعمير والبناء، وهداية تلك الحركة بقيم العدل والرحمة والتكافل والمساواة بين الناس والإيثار وتقديم الفضل.. وإذا بمئات المجالس التى يختلف إليها اليوم الصغار والكبار من الرجال والنساء تموج بأحاديث توشك أن تغوص بالجيل كله إلى حالة من اليأس الحزين ولا تكاد تتردد فيها إلا أحاديث العذاب الذى ينتظر العصاة والمقصرين.. ولا تكاد تتداول فيها إلا كتبٌ لا وزنَ لأكثرِها عند أهل العلم – تدور حول عذاب القبر وأهوال يوم البعث، حتى صار التدين فى وعى كثير من الرجال والنساء، مرادفا للحزن والانقباض والانسحاب من الحياة، وصار الأمر بالمعروف – عند بعضهم – تلذذا بتسقط عورات الناس وإساءة الظن بهم، والإيحاء لهم بأنهم آيسون من رحمة الله.

لذلك لا أضع القلم عن سطور هذا المقال قبل أن أذكِر القراء جميعا أنه ليس من حق أحدٍ أى أحد أن يضعهم أمام خيار ظالم بين تدين يملأ حياتهم عبوسا وحرجا، وينتزع منها بهجة المتعة الحلال، ويضع على حريتهم وانطلاقهم ألف قيد وقيد.. وبين انطلاق يكفل لهم البهجة والحرية والراحة بعيدا عن الدين وانخلاعا منه، وتبرؤا من الانتساب إليه.. تلك قسمة ظالمة لا أصل لها ولا فصل، ولا موضع لها فى صورة الحياة التى رسمها الإسلام للناس.

وأرجو أن أوجه فى نهاية هذا الحديث دعوة مُلِحة للعلماء المحققين العارفين لأوضاع الدنيا المتغيرة من حولنا والواعين بما يحمله أهل هذا الزمان من هموم وأعباء.. إلى أن يعاهدوا الله – وهم بما يحملوه من العلم ورثة أنبيائه – على ريادة ثورة فكرية شاملة لتصحيح الفهم السائد عند كثير من مسلمى هذا العصر حتى نستخلص – معا – جيلا بأكمله من شباب هذه الأمة من مخالب الانسحاب والتراجع والانطواء على النفس والعزلة عن الناس.. ذلك أن الحزانى والمكتئبين لا يصلحون لبناء الحضارات، ولا يقدرون على نشر الرسالات، وإنما يبنى الحضارة، ويملأ الدنيا بالخير أصحاب العقول اليقظة والهمم العالية والسواعد القوية، والنفوس المطمئنة التى تملؤها البهجة ويشيع فى جنباتها البشر والرِضا والسرور.

 

ع/

أحمد كمال أبو المجد مفكر اسلامي وفقيه دستوريالنائب السابق للمجلس القومي لحقوق الإنسان
التعليقات