هوامش على كتاب النقد - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هوامش على كتاب النقد

نشر فى : السبت 9 أبريل 2022 - 7:05 م | آخر تحديث : السبت 9 أبريل 2022 - 7:05 م

طرحت فى مقال الأسبوع الماضى شكوكا تراودنى حول دقة اللغة، ومدى قدرتها على التعبير بالضبط عن الحالة والمعنى والمشاعر، والآن أنطلق إلى قراءة أعمق تخص الكتابة النقدية، ومصطلحاتها، ومناهجها.
أرى النقد طريقة للحياة، وليس مهنة، إنه وسيلة تتيح لصاحبها أن يسأل ويتوقف ويناقش، وتسمح له بأن يعرض ويحلل، ويفك ويركب، ويقارن ويوازن، ويصل إلى حكم، مهما كان الموضوع أو القضية.
النقد وسيلة لاكتشاف ما وراء تعقيد الموقف أو المشكلة، عين تنظر إلى ما هو جوهرى، وتفصله عما هو فرعى أو هامشى، وهو أسلوب للتعامل مع كل ما فى الحياة اليومية، قبل التعامل مع النصوص والأعمال الفنية.
إنه أشمل بكثير من نظرية محددة؛ لأنه موقف من العالم، هل تمر الأشياء هكذا بدون مراجعة؟ أم يجب أن نراها من زاوية الحس النقدى؟
نمارس أحيانا هذا الحس النقدى فى أمور عادية يومية، نقارن ونوازن ونراجع ونحكم على مواقف وتصرفات وتورطات، نتوقف عند مصطلح كاذب فنقول «رفع الأسعار» بدلا من «تحريك الأسعار»، نكتشف أن اللغة وسيلة للخداع، مثلما هى وسيلة للعلم والمعرفة، هذا نموذج بسيط للحس النقدى.
فى الكتابات والنصوص نحتاج إلى عمليات أكثر تعقيدا؛ لأن العمل الأدبى يتكون من عناصر مؤتلفة، والكتابة الفنية تقول دون أن تقول، فيها جانب شعورى ويقظ، ولكن فيها أيضا جوانب لا شعورية، لا يدركها الكاتب نفسه، ولكنها تخرج على الورق، أو على شاشة الكمبيوتر، الكاتب لا يكتب بأفكار لحظة الكتابة وحدها، وإنما يكتب بحياته كلها، والنقد يحاول أن يكتشف تجليات حياة كاملة فى نص واحد.
هنا صعوبات وشكوك متزايدة رغم وجود مناهج ونظريات، بل ربما بسبب وجود مناهج ونظريات؛ لأنها يمكن أحيانا أن تسجن النصوص فى قمصانها الحديدية، بينما يبدو الجمال، فى النصوص العظيمة، حرا طليقا ومحلقا.
فلتكن المناهج مجرد علاماتٍ على الطريق، خطة سير ونور كاشف، ولكن عليك أن تترك نفسك للتجربة الجمالية، أن تتذوقها أولا غير منشغل بالمقادير والحسابات، مثل وجبة لذيذة تستمتع بها، ثم تسأل بعد ذلك عن سر مذاقها، وعن تفاصيل الوصفة المبتكرة.
المشكلة أن تحضير الأكلات، ومقادير الملح والسكر فيها، معروفة ومجربة، لكن مقادير الفن متلونة ومتغيرة، كل تجربة فنية متفردة، هناك بالطبع سمات عامة، ولكن كل نص عظيم له روح وهوية وبصمة، له مقام موسيقى ووصفة خاصة.
ليس هناك «باترونا» لكل نص، ولذلك يجب أن تكون المناهج مرنة، بل يمكن استخدام أكثر من منهج فى القراءة.
«لا شىء يعلو فوق الأجمل»، هكذا كان يقول محمد عبدالوهاب، لا شىء يعلو فوق الأجمل حتى القاعدة.
النصوص لها مفاتيح، بدونها لا يمكن العبور أو الدخول، ونحن كنقاد نكتب أنفسنا وثقافتنا وذائقتنا، مثل صاحب النص سواء بسواء.
لا يوجد شىء فى النقد اسمه «الموضوعية الكاملة»، لسنا فى معمل لتحضير الماء بأوزان منضبطة من الأكسجين والأيدروجين، نحن نكتب ذواتنا وتفضيلاتنا وثقافتنا، لا موضوعية أصلا فى العلوم الإنسانية، وفى قراءة نصوص شرطها الانحياز والرؤية الذاتية.
إنه هاجس آخر مهم: ما مدى تعبير النقد عن هوية الناقد، عن لغته وذاته، عن نظرته للفن والأدب؟ حضور الناقد فى نصه يفترض أن يعادل حضور الكاتب فى نصه. هذه كتابة على كتابة، وإبداع على إبداع، وقول على قول، نوتة على مقام القراءة، توازى نوتة على مقام الكتابة. لا يعنى ذلك أن نؤلف أو نضع فى النص ما ليس فيه، وإنما نبرهن على كل معنى من النص نفسه، ظاهرا وباطنا، بناء ولفظا، صار النص أهم من الكاتب، كائن حى مستقل، غامض ومحير.
هاجس ثالث: إلى أى مدى نسيطر كنقاد على المصطلحات؟ نوظفها ولا توظفنا أو تجعلنا نعمل عندها أو لحسابها الخاص؟ إلى أى مدى يمكن نقد المصطلح نفسه دون خوف أو وجل؟
يبدو لى أن النقد مساءلة دائمة للمصطلح، بقدر ما هو مساءلة للنصوص، خذ مثلا مصطلحا مثل «الرواية التاريخية» الذى يكاد يوحى بأن الكاتب ركب آلة الزمن، وصار قادرا على أن يحل فى التاريخ، مع أن ما يحدث هو العكس: «التاريخ هو الذى يحل فى كاتب معاصر»، أى أنها كتابة معاصرة تماما، وإن كانت تستلهم التاريخ.
لا يمكن أن نكتب كتابة تاريخية حرفيا، نحن معاصرون بالضرورة، والتاريخ بالنسبة للروائى مجرد مادة للتشكيل، يقترب أو بيتعد عن وقائعه وفق رؤيته الفنية، مطلبه الجمال لا الحقيقة بمعناها الأخلاقى، الروائى هو نقيض المؤرخ، حتى لو تعامل الاثنان مع مادة واحدة هى التاريخ.
خذ مصطلحا آخر مثل «موت المؤلف»، وانظر وتأمل: كيف يعنى دخول القارئ أو الناقد كطرف مهم وأصيل فى القراءة والتأويل والتفسير نفيا لصاحب النص نفسه؟ المؤلف هو صاحب الرؤية الأصلية، ومشاركة نصه عبر العصور لا تعنى إلا ثراء النص، وموهبة صاحبه، والقراءات المختلفة لا تقتل أحدا سوى الرتابة والتفسير المعتمد والغباء، فكيف تقتل صاحب النص نفسه؟
فلنحترس للغة، للفظ، للمصطلح، فى النقد، وفى الحياة عموما، هل أخذت بالك أن مصطلحا شائعا مثل «جريمة حرب» هو المصطلح الذى يجعل الحرب «شرعية» باستثناء جرائم معينة تُرتكب فى ساحاتها؟
نحن نتعامل مع الحياة نفسها عندما نقرأ النصوص، نبحث عن المعنى وراء الحكايات، عن الروح والمزاج واللون، نفكك بوعى وليس بغرض تحويل النصوص إلى جداول تكررت فيها الكلمات والسطور.
النقد لا يجب أن يحول النصوص الحية إلى جثث مقطعة الأوصال، النقد إضاءة تدرس الجزء لأنه يعبر عن الكل، هذا الجسد ليس كل شىء، إنه التجسيد المادى لروح كامنة وغامضة، النقد محاولة لاكتشاف الروح عبر الجسد.
أما كلماتى فهى مجرد نص مفتوح، حول نصوص مفتوحة، على قراءات لا تنتهى.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات