أوهام الأفكار الذهبية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 7:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوهام الأفكار الذهبية

نشر فى : السبت 10 يونيو 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 10 يونيو 2023 - 8:00 م
ذات يوم من العام 2012، كنت فى زيارة إلى الصديق الكبير الراحل د. محمد كامل القلوبى فى معهد السينما. غاب عنى الآن سبب الزيارة، ولكنى ما زلت أتذكر محور حديثنا عن صعوبة عمل فيلم عن ثورة يناير، بينما لم تكتمل فصولها بعد فى الشوارع، وفى ميدان التحرير.

قلت للدكتورالقليوبى إن ما يستحق السرد فقط هو بعض المواقف الإنسانية، وحكيت له عن قصة حدثت فعل:

مجند فى الشرطة، تصادفت عودته إلى القاهرة صباح يوم الجمعة 28 يناير 2011، بعد إجازة قصيرة فى قريته. لم يكن يعرف شيئا عن المظاهرات، فنزل الشارع بزيه الرسمى، وأذهلته مطاردة المتظاهرين له، فلما جرى واختبأ فى أقرب بيت، أغلق عليه السكان الباب، وأفهموه ما يجرى.

بعد ساعات، خلع زى الشرطة، وحصل من أهل البيت على ملابس مدنية، عاد بها إلى قريته.
لمعت عينا د. القليوبى، وهتف:

«دى فكرة فيلم كويسة.. هاشتريها منك، واكتب اسمك فى التترات».

ضحكنا، ولكنه بدا جادا للغاية، وعاد ليؤكد أنها «مجرد فكرة»، سيتم «الشغل عليها وتطويرها».

بعد شهور طويلة، كنت فى منزل المخرج الكبير الراحل محمد خان، لمشاهدة نسخة أولى من فيلمه الجديد وقتها «فتاة المصنع».

قبل المشاهدة، أخذنا الكلام إلى صعوبة عمل فيلم عن أحداث الثورة المستمرة، وأخبرنى عن محاولات لم تكتمل مع كاتب السيناريو رءوف توفيق، لكتابة فيلم عن ثورة يناير.

وجدتها فرصة من جديد لكى أتحدث معه عن العسكرى العائد من إجازته يوم جمعة الغضب، فاستوقفنى خان بمنتهى الجدية، مؤكدا مرة أخرى بحماس أنها «حكاية تعمل فيلم»، ولكنها «مجرد فكرة عايزة شغل كبير».

فى المرتين كانت هناك فكرة وحماس، وفى المرتين كانت الأفكار وحدها، والمواقف البسيطة بمفردها، غير كافية، وفى المرتين كان حديث د.القليوبى ومحمد خان عن الفكرة كمجرد «بداية»، مهما كانت لامعة أو براقة، وبعدها يبدأ «الشغل»، أى العمل الشاق على المعالجة، وعلى البناء، وعلى الكتابة، والتطوير، والتغيير، وعمل المسوّدات المتتالية، من أجل الانطلاق إلى آفاق أوسع وأكبر.

الشاهد فى الحكايتين أيضا أن الأفكار لا تأتى بمجرد انتظارها، ولكنها تأتى بالبحث عنها.

القليوبى وخان كانا يبحثان أصلا عن أفكار درامية تصلح لعمل فيلم عن ثورة يناير.

وخان جلس فعلا، كما قال لى، مع رءوف توفيق للبحث والاكتشاف، ومن هنا قادنا الحديث إلى حكاية الجندى العائد.

الأفكار إذن لا تسقط من السماء، ولكنها تصل لمن يبحث عنها، ويبذل جهدا فى سبيل ذلك.

يقول شابلن فى مذكراته (ترجمة صلاح حافظ):

«الأفكار تأتى بالرغبة الشديدة فى إيجادها، فبالرغبة المتصلة يتحول العقل إلى برج مراقبة، يفتش عن الحوادث والملابسات التى تثير الخيال، قد تكون الموسيقى أحيانا، أو مشهد غروب الشمس، مصدر إلهام بفكرة جديدة».

«التقط أى موضوع يثير انتباهك، ثم طوّره وعالج تفاصيله، فإذا وصلت إلى مرحلة تعجز عن التقدم بعدها، اطرحه جانبا، والتقط موضوعا آخر، فغربلة الأشياء المتراكمة، والتخلص من بعضها، هو العملية التى تقودك إلى العثور على ما تريد».

هناك وهم حقيقى تصنعه الأفكار البراقة والذهبية. إنها تمنحنا ثقة بأننا امتلكنا نصّا أو فيلما.

تماما مثل الجملة الموسيقية الجميلة، التى تعطينا وهما بأننا امتلكنا قطعة موسيقية عظيمة.

بينما يقول الواقع إن الأفكار ليست سوى بوابات أو عتبات.

السماء تعطيك فكرة أو خاطرة موسيقية، مجرد جملة جميلة، ولكن عليك أنت أن تعمل أضعاف جهدك العادى، لكى تكتب نصّا، أو لكى تكتب سيمفونية عظيمة. تطوير الفكرة أهم من الفكرة نفسها، والتطوير يحتاج إلى صبر وعمل وعصف ذهنى. وحتى بعد كل هذا الجهد، يمكن ألا تقتنع بما كتبت، فتتوقف أو تؤجل الكتابة، حتى تنضج المعالجة.

إذا لم تنجح فى تطوير الفكرة، فلا تتردد فى أن تضعها فى درج المكتب. لا تقتلها بالمعالجة السطحية المتعجلة. إنها مجرد خميرة، بدونها لن يكون هناك خبز، ولكنها أيضا ليست الخبز نفسه، لأنه لا بد من عمليات إضافية، وأفران، لكى تتحول الخميرة إلى خبز.

بدون تلك العمليات والإضافات، وبدون نيران الأفران، لا قيمة للخميرة، ولا أهمية لها فى ذاتها. ولا معنى لأن تمتلك خميرة جيدة، دون أن تستفيد بها فى عمل خبز أو كعك، ولا معنى لأن تنتظر أن تتحول الخميرة إلى خبز من تلقاء نفسها، بدون جهد أو عمل منك، فهى لن تستطيع أن تفعل ذلك بمفردها.

الأفكار هدايا تختبر البشر، فإذا عملوا لكى يصنعوا منها أعمالا فنية وأدبية، صادقتهم ومنحتهم سرها، وإن لم يقدّروا قيمتها بالتعب والعمل، تركتهم وذهبت إلى غيرهم.

لو راجعت الأفكار الأولى التى صنعت أفلاما أو روايات هامة، لوجدتها شديدة البساطة، وربما شديدة السذاجة، ولكن تطوير الفكرة، هو الذى صنع منها أعمالا هامة.

خان نفسه كان يحكى كثيرا عن بذور أفكار أفلامه البسيطة للغاية، ويحكى أكثر عن العمل على الفكرة، والصبر عليها، لكى تتحول إلى أعمال مهمة، أو على حد تعبيره فى كتابه «مخرج على الطريق»:

«البذرة بتطرح فكرة بتولد فيلم».

فيلم «موعد على العشاء» مثلا بدأ بخبر احتفظ به خان من مجلة لبنانية، عن فتاة قامت بتسميم نفسها مع حبيها، حتى لا يتزوج من فتاة أخرى، تحت ضغوط عائلته. ظل الخبر فى درج خان كخميرة مفترضة لفيلم جديد، وبعد سنوات ترجمت الفكرة إلى فيلم «موعد على العشاء»، بمعالجة ودوافع أخرى، وبكتابة بشير الديك العظيمة.

إذا استسهلت، أو انخدعت ببريق الخاطرة أو الفكرة، وإذا لم تعمل عليها، فستكون مثل من مُنح ذهبا فبدده. وتذكر دائما أنه لن تكون لديك فكرة بمليون جنيه، إلا لو لو صنعت منها عملا فنيّا، يساوى مليون جنيه.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات