الأب الروحى للسينما التونسية.. وخط دفاع السينما المصرية - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 8:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأب الروحى للسينما التونسية.. وخط دفاع السينما المصرية

نشر فى : الأربعاء 10 نوفمبر 2010 - 10:37 ص | آخر تحديث : الأربعاء 10 نوفمبر 2010 - 10:37 ص

 تاريخ يمشى على قدمين.. هكذا بدا لى الطاهر الشريعة حين التقيته، لأول مرة، فى بداية السبعينيات فى القرن الماضى، فى مهرجان دمشق السينمائى. مظهره يدل على مخبره: رأس كبير بملامح وجه شديدة الوضوح، كأن نحاتا مرهفا حددها من مادة ثمينة. لحية طويلة، بياض شعرها أكثر من سوادها، كثة، مشعثة، تلتف حول الذقن والصدغين وتتصل بفروة الرأس المجللة بالشيب.. تسلل الزمن إلى الجبهة وحول الفم فترك خطوطا غائرة. حاجبان غزيرا الشعر، يعلوان عينين غائرتين تنطق نظراتهما النفاذة بالبصيرة والمحبة. أنف مستقيم، فوق مساحة غير قصيرة، يحتلها الشارب الموصول بشفتين منفرجتين عن ابتسامة لا تتلاشى مهما غضب صاحب الوجه.. حبات العرق دائمة التفصد، سواء فى الصيف أو الشتاء. وفيما يبدو أن الشريعة تآلف مع تصبب العرق فلا يحاول تجفيفه. أو ربما أيقن أن لا فائدة من وقفه، فتركه لامعا على بشرته.. الطاهر، غالبا، يرتدى جلبابا تونسيا، ناعما فضفاضا، مطرزا تطريزا رقيقا. يحمل فى يده حقيبة كبيرة فاغرة الفم، يطل منها عنق زجاجة مياه فضلا عن حوافى كتب ومجلات وجرائد.

كم أحببته بهذه الطلعة؟.. يقبل عليك بشوشا، حارا، ليواصل حوارا قد يكون انقطع من سنوات فى أحاديثه البالغة الثراء، يمتزج الماضى بالمستقبل، ويتوحد «العام» بالخاص، فالتاريخ عنده ليس مجموعة أحداث ومواقف قديمة، ولكنه وعى مدعم بتجارب شخصية، ناجحة وفاشلة، يتأملها معك لتدرك على نحو ما، ما ستأتى به الأيام، من خير وشر. الطاهر الشريعة، لا يتأمل الأمور من نافذة معزولة، ذلك أنه عاش حياته عضوا فاعلا، بقوة، ليس فى مجريات الأمور وحسب، بل فى صناعتها.


حلم البداية

الطاهر الشريعة «5 يناير 1927 ــ 4 نوفمبر 2010»، ولد ببلدة «صيادة» التى تطل على البحر وتزخر بتراث شعبى يتمثل فى قصص ذات طابع أسطورى، وأزياء ومشغولات محلية تماما، فضلا عن أغان فلكلورية، وبعد استكمال تعليمه الثانوى والجامعى عمل مدرسا فى إحدى مدارس «صفاقس»، العامرة بالعروض السينمائية، ولأن الطاهر انخرط فى الحركة الوطنية ضد الاحتلال، فإنه تسلل إلى «نادى السينما» الذى يهيمن عليه الفرنسيون، ولاحقا، مع أواخر الخمسينيات، أنشأ «نادى السينما للشباب بصفاقس بإدارة تونسية خالصة، حيث فتح الباب للسينما المصرية».

لم يدافع الشريعة عن السينما المصرية دفاعا عاطفيا، لمجرد كونها ناطقة باللغة العربية أو لوقوف مصر إلى جانب استقلال تونس، ولكن لأنه رأى فى أفلامها ما يستحق اعتبارها من السينمات المهمة فى العالم. وفى مقال مطول، أقرب للدراسة، كتبه الشريعة عام 1959، وقف بجرأة ضد الاستخفاف بالأفلام المصرية ورفضها جملة وتفصيلا، واعتبارها مجرد «عويل ودموع وأغان ورقصات بطن»، فمن قلب هذه السينما، رأى الشريعة بحسه الصائب، ما يثير الأمل ويستحق الاحتفاء ــ وهنا ندرك دور الناقد المرهف الذى ينتبه إلى الشعاع المضىء وسط العتمة ــ فالشريعة يرصد ملاحظتين على قدر كبير من الأهمية: الأولى تتمثل فى محاولة الخروج من الأنماط المتكررة مثل «الميلودراما والهزل والأفلام الغنائية»، إلى أنواع جديدة، ذات طابع مختلف كالنوع البوليسى وبلا تردد يقول: «بعض الأفلام مثل «رصيف نمرة 5» أو «حميدو» أو «سواق نص الليل»، أو «باب الحديد» نلاحظ فيها أن اللكمات والضرب بالمطرقة أو الخنجر، لا تقل جودة عن أى مشاهد مماثلة نجدها فى أفلام الحركة التى تنتجها روما أو باريس أو هوليوود».. وإذا كانت أحكام الطاهر النقدية تتسم بالدقة والوضوح فإن تقييماته تنتبه عادة إلى الجانب الذى من الممكن أن يكون خفيا، فعنده «خالد بن الوليد» لحسين صدقى «لا يخلو من التهريج فى حد ذاته. إلا أنه يشهد بالرغبة الأكيدة فى الخروج من الأنماط القديمة البالية».

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتلك القضايا الجديدة، المرتبطة بالواقع، التى يثيرها مخرجون شباب ــ أيامها ــ مثل يوسف شاهين، صاحب «باب الحديد» و«صراع فى المينا»، والأكبر من شاهين سنا مثل هنرى بركات فى «دعاء الكروان»، وصلاح أبوسيف فى «الفتوة» وعقب ذكر الكثير من هذه الأعمال يعلن الشريعة بوضوح أنه يهدف «لحث المتفرجين أن يكونوا أكثر عدلا فى تقديرهم». وبلهجة لا تخلو من عتاب يتساءل «كم من طلبتنا ــ وبالأخص طالباتنا ــ شهدوا «إحنا التلامذة» لعاطف سالم، أو «أنا حرة» لصلاح أبوسيف؟ كم من نسائنا المتحررات والمحاربات أو حتى اللواتى يتزعمن الحركة التقدمية شاهدن «أنا حرة» الذى يمكن اعتباره أداة حقيقية لنشاط النوادى والاتحادات والمنتديات النسائية المختلفة وبنزاهة يعلن «هذه السينما هى سينمانا أكثر من أية سينما أخرى».. إذن، من الإنصاف القول إن الطاهر الشريعة، تاريخيا، هو خط الدفاع القوى، للسينما المصرية.

نجاح المشروع

بفضل طاهر الشريعة، انتشرت نوادى السينما فى طول تونس وعرضها، وانتشرت معها الثقافة السينمائية، فعقب كل عرض، تندلع مناقشات بين الرواد، تحلل وتفسر وتقيم. ومن هذه النوادى، ظهر معظم رجال السينما التونسية، مخرجين، نقادا، ممثلين، وحتى منتجين. لذا، فإن فنانى تونس يعتبرون أنفسهم أبناء هذه النوادى، ويعتبرون الشريعة، هو الأب الروحى.

الطاهر الشريعة يتمتع بنوع من الحيوية الذهنية، عقله لا يتوقف عن الخيال، ذلك الخيال البعيد عن الأوهام، والمبنى على خبرة بالواقع ودراية بالاحتياجات ومعرفة بالإمكانات والقدرات، لذا فإنه بعد تحقق حلم نوادى السينما، بدأ يرنو إلى مشروع رائد، ليس على مستوى تونس فقط، لكن على المستوى العربى والأفريقى. ولأنه يدرك موقعه تماما، تاريخيا وجغرافيا، هداه تفكيره إلى تنظيم وإقامة «مهرجان قرطاج السينمائى» الذى يعتمد على دائرتى السينما العربية، والأفريقية.

هنا تظهر فى الصورة شخصية أخرى، لا تقل طموحا عن شخصية الشريعة، وتوازيها، ميلادا ونشاطا وإنجازا.. الشاذلى القليبى، المولود فى تونس قبل الشريعة بعامين، ودرس فى مدرسة الصادقية التى درس فيها الطاهر، وانخرط فى النضال الوطنى، وأسس وزارة الثقافة وتولى شئون وزارة الإعلام من 1961 إلى 1970، وبلا تردد، بل بحماس، استجاب لمشروع «أيام قرطاج السينمائية»، ووقف إلى جانبه ووراءه، كى يرى النور عام 1922، فيصبح أول مهرجان فى الدول العربية والأفريقية، يقام بانتظام كل عامين، وله لائحة محددة وواضحة، واستطاع أن يستمر، نابضا بالحياة، حتى يومنا هذا.

جدير بالذكر أن السينما المصرية بأفلامها ومخرجيها ونجومها ونقادها، تمتعت بحضور دائم فى قرطاج، ويوم فاز «المخدوعون» بالطانيت الذهبى فى دورة 1972، فوجئ مخرجه، توفيق صالح، أن الجمهور التونسى يعرفه تماما، من خلال أفلامه التى عرضت فى نوادى السينما، كذلك الحال بالنسبة لصلاح أبوسيف، ناهيك عن يوسف شاهين، الذى يهيم به عشاق السينما.. الكثير من أفلامنا فازت بجوائز مرموقة، مثل «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب، «خرج ولم يعد» لمحمد خان، «عفاريت الأسفلت» لأسامة فوزى، و«ميكروفون» لأحمد عبدالله.

حصاد

الطاهر الشريعة، فى عالم الكتابة، يتميز بأسلوب خاص، ناصع، يعبر عن مقاصده بدقة، وطلاوة، ترجم الشعر من العربية للفرنسية، ومن الفرنسية للعربية، له كتاب بالفرنسية، عنوانه «شاشات الثراء سينما التحرير فى أفريقيا»، وكتاب آخر بالعربية، عنوانه «أيام قرطاج السينمائية، فيها وعليها»، أشرف على إصداره الناقد الكبير، خميس خياطى، وفى سطوره تتجلى روح الدعابة التى لا تفوت الشريعة، حتى فى أكثر المواقف تجهما، فالكتاب الذى يحكى عن أهم وأغرب ما حدث فى المهرجان، خلال دوراته المتوالية، وإذا كان كاتبه، ومعه كل الحق، يسرد أسماء من سلط قرطاج الأضواء عليهم، فى بداياتهم، مثل عثمان سمبين، سليمان سيسى، خالد الصدويقى، محمد ملحى، محمد عبيد هندو، فإن الشريعة، بصراحته يحكى عن وقائع قد لا يجرؤ على الاعتراف بها الآخرون، مثل ذلك الإهمال الذى أدى إلى نسيان أحد وفود دولة أفريقية فى الفندق، مما جعل موعد الطائرة المغادرة يمر، وكانت النتيجة بقاء الوفد إلى أن يحين موعد إقلاع الطائرة التالية، بعد ثلاثة أيام.. وأصبحت المشكلة هى: من يدفع ثمن الغذاء وتكاليف الإقامة فى الفندق؟

الشريعة، يعرف قدر نفسه، من دون غرور أو تواضع، ويدرك أنه من صناع التاريخ الثقافى فى وطنه، ونحن جزء منه، لذا فإنه، فى كتابه هذا، يحدثك مباشرة بقوله «أعلم.. كذا وكذا»، ولا يفوته أن يدعو لك، بقلب أب طيب «وقاك الله من كل شر».. وهو، حين يحصى عيوب «قرطاج» يبدو وكأنه يدرك أن هذه العيوب ستغدو أقرب للأمراض المتوطنة، المنتشرة، تظهر فى «أيام قرطاج» التالية وتنتقل إلى معظم مهرجاناتنا العربية، ومنها، على سبيل المثال ما يتعلق بضآلة الوثائق والمعلومات عن الأفلام التى يعرضها المهرجان، أصحابها، بلدانها، تاريخ أو سوابق «سينماتها». ويعلق الشريعة «صحيح أن الحصول على هذه المادة ــ نشرات، صور، ترجمات أشخاص، معلومات أخرى ــ من أفريقيا والوطن العربى يعد من الصعاب.. ولكن أصح من ذلك أن المهرجانات الجادة ــ لا العابثة ــ استطاعت دائما أن تحقق المطلوب بمعجزة بسيطة».

أما عن لجان التحكيم، فإن الشريعة يلاحظ «كل دورة من دورات المهرجان يصيب تركيب اللجنة التسرع وقلة التروى إذا لم أقل الاستخفاف والانبهار بالنجومية التى أهلا وسهلا بها فى المهرجان.. لا فى لجنة التحكيم».. بعد سنوات طويلة من هذا الكلام، وأثناء تكريم الطاهر الشريعة، الجالس على كرسى متحرك فوق خشبة المسرح، دار فى الصالة المشهد التالى: الصف الأول من المقاعد، عدة كراسى مخصصة لأعضاء لجنة التحكيم، ومن بينها النجمة الصاعدة سلاف فواخرجى، التى نسيت أنها عضوة، فى لجنة، وهيمنت عليها صورة النجمة المدللة التى تأمر فتطاع. أرادت أن يقعد بجوارها زوجها، ولما لم يستجب لطلبها غادرت القاعة غاضبة.. رحم الله الطاهر الشريعة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات