الأزمة الكاشفة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأزمة الكاشفة

نشر فى : الخميس 10 ديسمبر 2009 - 9:57 ص | آخر تحديث : الخميس 10 ديسمبر 2009 - 9:57 ص

 عندما يتعرض إنسان أو جماعة كبرت أو صغرت لأزمة ما يظهر معدن ومبادئ وتوجه هؤلاء البشر، ولا نستطيع أن نكتشف التكوين الداخلى للبشر من قيم عليا أو نقائص أو أمراض نفسية واجتماعية سوى أثناء الأزمة، فالأزمة تكشف ما يحاول الفرد أو الجماعة إخفاءه عن عيون البشر المحيطين وتكشف مدى عظمة وقوة وتماسك الجماعة من عدمه وفى الأزمة الكروية بين مصر والجزائر أُكتُشِفت أمور كثيرة والآن وبعد أن هدأ غبار المعركة نطرح بعض الأسئلة ربما توضح لنا بعض الأمور.

أولا: لماذا تم تديين القضية؟!

من الأمور التى أصبحت عادية مثل تنسم الهواء وشرب المياه تديين أى قضية نتناولها ويا ليته كان تديينا صحيحا لكنه تديين من النوع المرضى الذى يغيب العقل ويضيعه ويوقف عمله، فما معنى أن يُطلب من الكنائس والجوامع أن تطلب من الله النصر فى صلواتها وأنه بكثرة الصلوات يستجيب الله، وقد تمت هذه الدعاية قبل المباراة وبعد المباراة الأولى فى القاهرة وقد قيل إن الهدف الثانى جاء لأن الجماهير جميعها هتفت فى وقت واحد (يارب) وهنا قفز عماد متعب وأحرز الهدف الثانى ويقول خالد الجندى لمحمود سعد إن الفريق القومى انتصر لأنهم تابوا إلى الله والمعنى هنا أنه فى المباراة الثانية فى السودان انهزمنا لأن اللاعبين والجهاز الفنى كانوا خطاة غير تائبين، وأيضا أن الجماهير لم تهتف قائلة يا رب فى لحظة واحدة، وكل هذا يعنى ضمنا أنه لا يهم التخطيط ولا التدريب ولا التنفيذ فى الملعب طالما أن المدرب والمدير الفنى واللاعبين أتقياء يصلون ويصومون.. الخ وهذا نوع من الخرافة والتغييب وتحقيقا لمقولة (الدين أفيون الشعوب) مع أن الدين دائما ما يحض على البحث عن الأسباب، وأنه لو كان الأمر كما يؤمنون لما كان الله إلها عادلا فهو يحابى الذى يؤمن به حتى لو كان كسولا ويرفض أنصاف المجتهد لأنه ملحد أو غير متدين وأليس هذه النوعية من التدين تشوه صورة الله لدى البشر، ثم إذا كان الأمر صوما وصلاة وفرائض فلماذا لا نفوز بكأس العالم؟ إن كل هذه الصلوات والأدعية التى مارسناها كانت لكى ندخل للعب ضمن الفرق فى كأس العالم ونخرج من الدور الأول غالبا لأن المستوى المهارى والخططى للاعبينا فى ذيل القائمة، فما بالكم لو صمنا وصلينا أكثر ووضعنا الهدف هو الفوز بكأس العالم خاصة أن الفرق الأخرى التى سنقابلها معظمها من العلمانيين الكافرين والمنحلين مثل فرنسا وانجلترا وإسبانيا... الخ وهؤلاء لا يصومون ولا يصلون ومعظمهم لا يؤمن بوجود الله أصلا وهكذا فلنقف خلف فريق الجزائر بحكم العروبة والأخوة بالصلاة والدعاء حتى يفوزوا بكأس العالم!

ثانيا: لماذا المذيعون الهواة؟

فى كل بلاد العالم الذى يتصدى للبرامج الرياضية إما مذيعون محترفون أو إعلاميون متدربون وحاصلون على شهادات عليا فى الإعلام وفى نفس الوقت مثقفون رياضيون وهم يديرون الحوار والتحليل، أو أن يكونوا أصلا من الرياضيين الذين اعتزلوا لكنهم أخذوا دورات تدريبية فى الإعلام وبعد عدة اختبارات يمكن قبولهم، لكن المذيعين لدينا هم من اللاعبين الذين اكتسبوا شهرتهم من الملاعب ثم جلسوا على كرسى المذيع وليس لديهم أى فكرة عن احتراف العمل الإعلامى وكما نعلم جميعا أن معظم اللاعبين فى مصر غير مثقفين لعدة أسباب أولها أن الكرة لم تمنح لهم الوقت الكافى للتعليم والثقافة، ثم هم بطبيعتهم لا يقبلون على القراءة، وثالثا كثرة الأموال بين أيديهم تجعلهم يهمشون العمل الثقافى، فكيف يستطيع إنسان بهذه المواصفات أن يملأ الهواء، وإذا طُلب منه ذلك كانت النتيجة كما رأينا خطابا ينتهك كل المحرمات والثوابت فمصر عاهرة والجزائر بربرية والدعوة للحرب والأناشيد الحماسية وكأننا مقبلون على معركة عسكرية طاحنة، والحوار العظيم يدور حول من البادئ والجوار العميق تتخلله كلمات حذاء (جزمة)، كلاب رعاع... الخ، ولقد بلغت الفجاجة حدا جعل كل من لديه ذرة من العقل أو حب لهذا الوطن يشعر بالقرف الشديد من هؤلاء الإعلاميين، وإلى متى سيظل هؤلاء يطلون علينا بتفاهتهم وتحريضاتهم وادعائهم الوطنية حيث لا مكان لها هنا بأى معنى من المعانى.

لقد اكتشفنا أن الغوغائية ليست فى أرض الملعب ولا بين اللاعبين فقط لكن على شاشات التليفزيون ولم يتحدث إعلامى عن التعقل والتسامح لكنهم تحدثوا عن الانتقام والقتل هل يعقل أن يقول أحد المذيعين: إن الهزيمة من الجزائر هى نكسة مصرية أشد من نكسة 1967!

ثالثا: لماذا الأداء السياسى نفعى وساذج؟

الحقيقة كانت إدارة الأزمة فى منتهى السوء بدءا من الحديث عن أن الجزائريين قد حطموا زجاج الأتوبيس بأنفسهم وهم الذين أصابوا لاعبيهم فى المسافة بين المطار والفندق فى القاهرة والمشكلة أن النيابة بعد التحقيق وسماع الشهود أكدت هذا وهو ما لا يصدقه عقل، وفور طيران هذه المعالجة الساذجة للخارج انقلبت الدنيا على مصر ولم ينعدل حالها حتى اليوم، ذلك لان هذه المعالجة لن يقبلها عقل بشر ولو أن هذا حدث فعلا من الجزائريين فالحنكة السياسية الحقة كان يمكن أن تعلن للعالم أن هناك حجرا حطم الزجاج ونحن لا نعلم مصدره أو لم يثبت بعد من ألقاه ونحن نعتذر للفريق الجزائرى عما حدث لأننا مسئولون عن توفير الأمن لهم وهنا كنا استطعنا أن نكسب العالم فى صفنا لأننا تحدثنا بلغة العالم والتى هى الصدق والشفافية والاعتذار، أما لغة الإنكار فى أمور تبدو واضحة المعالم فهذا ما يرفضه العالم ولا ينطلى عليه.

ثم جاء الأداء السياسى الساذج بعد ذلك فى البطء الشديد للحديث للعالم، ومن العجيب أن كل وكالات الأنباء استمرت على مدى عشرة أيام وهم يغطون الأحداث ويدينون مصر رغم أحداث السودان ورغم الوضوح الشديد فى بلطجة الجمهور الجزائرى إلا أنهم يصدقون الجزائريون ولا يصدقوننا نحن ونحن نسير إليهم بسرعة السلحفاة، ثم جاء ركوب الساسة موجة الجماهير الغاضبة فهى فرصة لمن ليس له شعبية أن يكتسبها بصورة أو أخرى، فالسياسيون الحقيقيون لا يستخدمون كلمات الوطن والوطنية والتضحيات لأجل مصر والفداء والدعوة للجهاد فى مناسبة كرة قدم لأنه وببساطة لا علاقة بين الاثنين فالوطن أمر مقدس ورفيع ومتعالٍ والإنسان قبل أن يتحدث عن الوطن عليه أن يتوضأ ويحترم ذاته ويختار كلماته، لأن حب الوطن هو التالى بعد حب الله، أما كرة القدم فهى مجرد لعبة شعبية صحيح لها جماهيرية ضخمة ومسلية وبها مفاجآت وصحيح نحن نفرغ الشحنات العاطفية والتوترات أثناء مشاهدتها وصحيح هى تأخذ لدينا مكانة خاصة عند اللعب باسم الوطن، لكن لابد وأن نكون واضحين ومحددين أن الكرة لا تساوى الوطن وأنها مجرد لعبة للتسلية ولبهجة أبناء الوطن ولا تستحق أن يشتم الوطن بسببها، ولا أن يجرح مواطن بسببها وعلى السياسيين أن يكون لديهم هذا الوعى وهذه القدرة على التفرقة بين الوطن والكرة فى زمن تساوت فيه كل الأشياء وكل القيم وكل المعانى.

رابعا: لماذا يغيب المثقفون الحقيقيون؟

هذه الهوجة جذبت معظم مثقفى العصر وأقصد بمثقفى العصر أولئك الدين صعدوا درجات الثقافة وهم غير قادرين على استيعاب معنى الثقافة الحقيقية أنهم أولئك الذين تعلموا فى جامعات المذكرات وليست جامعات المراجع، أولئك الذين تربوا على مناهج وليس على موسوعات، الذين وجدوا أمامهم الأبواب مفتوحة على مصراعيها بسبب كثرة الفضائيات وجهل الجمهور وغياب الاساتذة، فلقد غاب عباس العقاد وطه حسين وزكى نجيب محمود ولويس عوض وغيرهم، وتنظر حولك لا تجد نظيرا لهم أو تلميذا فى مدارسهم وإذا أردت البحث عن مثقفين حقيقيين كامتداد طبيعى للعمالقة سوف تجدهم الآن قد عبروا الستين وتحصهم على أصابع اليدين إن استطعت وهؤلاء لم يسمعهم أحد ولم يستدعهم أحد للحديث وأصبحوا غير قادرين على التوافق مع معطيات العصر من فهلوة وإرضاء للجماهير ومغازلة لهم، ومنهم أيضا من يترفع عن الحديث فى أمور الكرة واسألوا جابر عصفور والسيد ياسين وفوزى فهمى ومراد وهبة.

إن امتناع المثقفين الحقيقيين أو غيابهم لسبب أو آخر يصنع هذه الفوضى العارمة فى أى مكان وحضورهم يضع النقاط فوق الحروف ويعيد الوعى بشرط أن تعطى لهم المساحة الكافية للتذكير بالثوابت وتطويرها بحسب العصر والتغيرات المحيطة ويوم يحدث هذه سوف يتغير الكثير من واقعنا إلى الأفضل وهكذا ترى عزيزى القارئ أن أزمة مصر والجزائر كشفت عن أن التدين الذى نعيشه هو تدين يميل إلى الخرافة وأن أكثر الفئات تأثيرا فى الناس (المذيعون) هواة وليس بمحترفين وأن الأداء السياسى ساذج وأن هناك غيابا حقيقيا للمثقف الأصيل، عزيزى القارئ أرجو من كل قلبى أن أكون مخطئا.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات