لا تخسروا الميزان - شريف عثمان - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 7:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا تخسروا الميزان

نشر فى : السبت 10 ديسمبر 2011 - 8:25 ص | آخر تحديث : السبت 10 ديسمبر 2011 - 8:25 ص

والميزان المقصود هنا هو ميزان المدفوعات الخاص بمصر. وميزان المدفوعات لأى دولة هو بمثابة الحساب الذى يسجل قيمة الحقوق والديون الناشئة بين بلد معين والعالم الخارجى، نتيجة المبادلات والمعاملات التى تنشأ بين المقيمين فى هذا البلد ونظرائهم بالخارج خلال فترة زمنية عادة ما تكون سنة، ويشمل ذلك التصدير والاستيراد للسلع والخدمات، وأيضا الاستثمارات الداخلة إلى (والخارجة من) البلد، وأيضا القروض والهبات وتحويلات الأفراد.

 

لقد سجل ميزان المدفوعات المصرى بنهاية العام المالى 2010/2011 عجزا يزيد على العشرة مليارات دولار، كما استمر النزيف خلال الشهور التالية، وكان من نتيجة ذلك حدوث انخفاض كبير فى حجم احتياطات النقد الأجنبى لدى البنك المركزى، بعد أن شهدت السنوات الثمانى الأخيرة جهودا ناجحة قام بها رجال البنك المركزى بقيادة العظيم المتواضع د.فاروق العقدة (أحد جنود حرب الاستنزاف وحرب اكتوبر) من أجل الحفاظ على تلك الاحتياطات وزيادتها، فارتفعت من 14 مليار دولار سنة 2004 إلى 36 مليار دولار بنهاية 2010، الا أن الوضع تغير كثيرا بعد الثورة، فانخفضت تلك الاحتياطات حتى وصلت إلى 20 مليار دولار بنهاية نوفمبر 2011 على الرغم من الجهود المبذولة من رجال البنك المركزى للحفاظ عليها، ويرجع ذلك بالاساس إلى ازدياد العجز فى ميزان المدفوعات بعد فترات عديدة من تحقيق فوائض فيه حتى وصل الاحتياطى إلى الرقم السابق ذكره.

 

وكان من أهم أسباب ظهور ذلك العجز وتضخمه بتلك الصورة الرهيبة، خروج المستثمرين الأجانب من مصر لقلقهم من الأوضاع المتردية سياسيا وأمنيا، وبالتالى اقتصاديا. فباعوا ما يملكون من أصول مالية ( أسهم وسندات) وبحصيلة البيع التى وردت إليهم بالجنيه المصرى قاموا بشراء الدولارات (فانخفض الاحتياطى وارتفع سعر الدولار ليتجاوز الجنيهات الستة) وخرجوا على وعد بالعودة حين تستقر الأمور (لاحظ تأثير حكم المحكمة باسترداد الشركات المباعة للأجانب على ميزان المدفوعات المختل أصلا).

 

***

 

والحقيقة أن موضوع سد العجز فى ميزان المدفوعات هو أمر مهم جدا. بل أكاد أقول إنه أهم موضوع على الساحة الاقتصادية فى الوقت الحالى، وللتوضيح، أصور الأمر بأننا كمصريين نعيش كأسرة كبيرة داخل البلد، نتعامل مع الجيران (العالم الخارجى) فى التصدير والاستيراد والاستثمار حتى يأتى وقت الحساب. فإما أن نكون مدينين للجيران، فيتعين علينا سداد بعض المبالغ لهم، أو يكونوا هم مدينين لنا، فيقوموا بسداد ما عليهم.

 

ويبدو أننا كأسرة مصرية، قد أسرفنا بعض الشىء فيما قمنا بشرائه من الجيران فى الفترة الاخيرة، ولم نقم ببيعهم ما يكفى لسداد قيمة ما أخذناه، خاصة مع قيامهم ببيع بعض أصولهم المالية الموجودة لدينا (أسهم وسندات) على النحو السابق ذكره، فأصبح لزاما علينا أن ندفع لهم المقابل.

 

وأول ما يتبادر للذهن عند البحث عن وسيلة لسداد ما علينا للجيران هو أن نذهب لسحب ما سبق ادخاره من فوائض الأعوام السابقة فى البنك (السحب من الاحتياطى)، وهو ما تم بالفعل حتى أصبح رصيدنا فى البنك يقل عما يكفى لاستيراد ما نحتاج من مأكل وملبس ودواء وغيرها لستة شهور، تمثل الحد الأدنى المقبول لأى أسرة (دولة).

 

بعد ذلك تفكر الأسرة فى الاقتراض من الجيران، وتلك مشكلة كبيرة. فأولا يدرك

 

الجيران جميعهم الظروف الصعبة التى تمر بها الأسرة، وبالتالى سيطلبون ثمنا مرتفعا (سعر فائدة) حتى يقوموا بإقراضنا، فهم يعلمون أننا نحاول الاقتراض لسداد ما يستحق علينا، كما أنهم يدركون أيضا انحسار الاختيارات المتاحة أمامنا.

 

والثمن المرتفع لا يكون بالضرورة ماديا فقط. فأحيانا تهون الفائدة المرتفعة أمام أثمان أخرى لا نرغب فى دفعها. فقد يعرض بعض الجيران إقراضنا مقابل الضغط من أجل عدم وصول بعض أبناء الأسرة (المتدينين مثلا) إلى الحكم. وقد يعرض البعض الآخر إقراضنا بشرط عدم تقديم متهمين بقتل وسرقة أبنائنا وأوطاننا للمحاكمة. كما قد يربط آخرون إقراضنا بما نقوم به من ضغوط على إخواننا من أجل التفاوض والتنازل لأبناء العم عن أرض يعلم الجميع أنها نهبت واحتلت بمساعدتهم وبتقاعسهم عن محاسبة معتد آثم.

 

ومن الطبيعى أن نكون غير راغبين ــ ولسنا غير قادرين ــ على دفع تلك الفاتورة خاصة بعد ثورة قامت من أجل أهداف واضحة، كان من أهمها تحقيق الكرامة الإنسانية لأبناء هذا الشعب.

 

بعد سحب المتاح من أرصدة فى البنك، واقتراض ما يتاح لنا بتكلفة مقبولة (ماديا ومعنويا) لم يبق لنا إلا بيع أثاث المنزل غير الضرورى أو الذى يشكل عبئا علينا، سواء لعدم الاستفادة به أو لاحتياجه الدائم لنفقات لا يكون لها أى مردود (بيع شركات القطاع العام الخاسرة لأجانب). وهنا يجب توخى الحذر الشديد، فهناك أشياء لا يجوز بيعها فلا نريد مثلا أن نبيع السرير أو المكتب (صحة وتعليم)، كما أننا لا نريد أن نأتى بمن يتحكم فى استخدامنا لدورات المياه والكهرباء (الخدمات الأساسية)، لكن من الممكن الاستغناء فى تلك الظروف عن الصالون أو حجرة الضيوف، ولنعلم جميعا أن من يأتى للشراء يبحث دائما عن المكسب، ويعلم جيدا أنه يشترى كيانا خاسرا، وبالتالى فهو يرغب فى الحصول عليه بأرخص الأسعار ويحاول أن يشترى أفضل المعروض، وبالطبع لا لوم عليه فى ذلك. لكن كل اللوم على من يبيع أصولا يمكن إصلاحها وتوجيهها لتحقيق ايرادات وأرباح أو من يتولى مسئولية البيع ويخالف ضميره فيبيع بأرخص الأسعار ويتم تحويل الفارق عن السعر الحقيقى لحساباته الشخصية فى البنوك. ومن المعروف أنه قد تم تعليق ملف الخصخصة ــ قبل قيام الثورة ــ ومن غير المتوقع إعادة فتحه قريبا.

 

أقولها بوضوح: لا يوجد لدينا الآن بديل لسد العجز فى ميزان المدفوعات إلا أن يعمل جميع أفراد الأسرة بكل طاقاتهم، من أجل انتاج سلع وتقديم خدمات «للجيران» تفى بما علينا من دين لهم. وأن نعمل جميعا على استقرار أحوال «البيت» حتى يتم توفير الأمن والاستقرار من أجل عودة الجيران «الأجانب» لممارسة أعمالهم لدينا وشراء ما نرغب فى بيعه لهم من منتجات أو خدمات أو أصول حقيقية أو مالية. ذلك وحده يكفل سدادنا لما يستحق علينا تجاه العالم الخارجى.

 

***

 

وحقيقة أنى فى دهشة شديدة لعدم ظهور رجل رشيد حتى الآن يشرح لعامة الشعب حقيقة الموقف ويطلب منهم التريث بعض الشئ قبل القيام بأى عمل يزيد من عجز ميزان المدفوعات. فهل من الطبيعى فى مثل تلك الظروف أن تكون هناك 6 طائرات يوميا خلال فترة عيد الأضحى لنقل المصريين الذين يرغبون فى قضاء إجازاتهم بتركيا، بينما شواطئنا ومدننا الجميلة تعانى من انهيار رهيب فى نسب الإشغال. هل يظهر هذا الرجل الرشيد ويضع لنا خططا تقشفية على غرار ما يحدث فى بعض دول أوروبا لمواجهة أزماتها.

 

هل يعقل أن يكون فى مصر الآن حوالى 300 ألف مواطن يطلبون الهجرة ويدفع كل منهم ما يقرب من أربعة آلاف دولار للمحامى الذى يعد لهم أوراقهم (لاحظ أن كل دوره إخبارهم بالأوراق المطلوبة ولا يضمن لهم الحصول على الموافقة) وبإجمالى مبلغ مليار ومائتى ألف دولار أمريكى يدفعها هؤلاء لأنهم يرغبون فى مغادرة البلاد.

 

فى عام المجاعة، لم يطبق عمر بن الخطاب حد السرقة على من سرق الطعام، فهل يوجد بيننا الآن من يجرؤ على أن يبيح تأجيل أداء العمرة والحج لمدة عام أو عامين، بعد أن تعدت فاتورة حج هذا العام مبلغ المليار ونصف المليار دولار أمريكى، بخلاف ما تتحمله البلاد من تكلفة من عملة صعبة بسبب العمرة طوال العام. وبالطبع ينطبق ذلك على أى سفر غير ضرورى ويمكن تأجيله.

 

هل يعقل أن نكون فى مثل تلك الظروف، وتكون قيمة لعب الأطفال التى تم استيرادها فى الشهور العشرة الأولى من هذا العام تزيد على ستمائة ألف دولار أمريكى، هل يدرك هؤلاء وهؤلاء ما يمثلونه من ضغط على ميزان المدفوعات وما يؤدى إليه ذلك من زيادة فى العجز يتتبعه انخفاض حجم احتياطى النقد الأجنبى الذى نملكه جميعا. ولا يجوز هنا أن يقول أحدهم «هذا شأنى وأنا أدفع من مالى الخاص». فهو بذلك يكون كمن يخرق السفينة فى الجزء الذى يخصه فيها، فلو تركناه يفعل ما يريد هلك وهلكنا جميعا.

 

***

 

كل ما أرجوه أن يفكر كل مواطن حريص على مصلحة الوطن للحظة فى كل سلعة يشتريها أو خدمة يحصل عليها أو أى تصرف ليعرف اذا ما كان تصرفه هذا سيؤدى إلى إضافة فائض أم عجز إلى ميزان المدفوعات ويتخذ قراره بعد ذلك حسب ما يمليه عليه ضميره.

 

أرجوكم لا تخسروا ميزان المدفوعات فيصبح مختلا فى غير صالحنا ويزداد عجزه يوما بعد يوم، ولنعلم جميعا أن «أشقاءنا» فى الخليج لن يمدوا لنا يد المساعدة. فنجاح الثورة المصرية مع القوة الناعمة لمصر هما أكبر تهديد لعروشهم، حتى وصل الأمر بالشيخ السديسى أن يدعو فى خطبة الجمعة من الحرم الشريف بأن يحفظ الله المملكة من جيرانها الذين يريدون أن يصدروا لها الفوضى حقدا عليها ولا يزالون حتى الآن ــ ورغم كل ما تكشّف من حقائق عن النظام السابق ــ يعتبروننا ناكرين للجميل غير حافظين للعشرة مع الرئيس والحكومة السابقين بسبب إصرارنا على محاكمتهم.

شريف عثمان مصرفي مصري
التعليقات