شجاعة الوداعة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 5:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شجاعة الوداعة

نشر فى : الخميس 11 مارس 2010 - 9:29 ص | آخر تحديث : الخميس 11 مارس 2010 - 9:29 ص

 الرجلان متشابهان فى الملامح، وفى التعبير عن رأيهما الرافض بلا مناورة ولا مداورة، وبهدوء دائما. وأعتقد أن التشابه فى الخلقة بين البشر يومئ إلى نوع من التشابه فى الأخلاق، ولعل الجوهر الأخلاقى للرجلين يكمن فى اللاعنف، الذى هو قوة تغيير حضارى هائلة، على عكس العنف الذى لم ينجز شيئا بدا ثوريا إلاّ وتحول إلى كيان متوحش يأكل نفسه بنفسه فى النهاية، لهذا أحترم نظرية أولهما، غاندى، فى «اللاعنف» والتى تمخض عنها أسلوب «المقاومة السلبية» أو الـ«ساتيا براها»، بمقوِّماتها الثلاثة: اللاعنف والشجاعة وحب الحقيقة.

واللاعنف فى رأيى، هو الحالة الأرقى والأكثر ملاءمة لتغيير ما نحن فيه على وجه الخصوص. وقد يتصور البعض أن هذا نوع من أقنعة الخوف، لكن الإمعان سيوضح لنا أن الرفض السلمى يتطلب أعلى درجات الشجاعة، ولأترك غاندى نفسه يشرح ذلك، وهو وإن كان يصب حديثه على مقاومة الاستعمار، فإننى أراه صالحا لمقاومة كل منظومات الفساد البشرى، فى سلطة استبداد محلية، أو سلطات احتلال أجنبية، فكلاهما قوة بغى لا تحقق أهدافها الأنانية إلا بالإكراه وبتزوير إرادات الشعوب.

يقول غاندى: «صدقنى ما من رجل تنقصه الشجاعة والكرامة يستطيع المواجهة بالمقاومة السلبية. إن رجلا فردا يستطيع ذلك كما تستطيعه الملايين، والنساء يقدرن عليه كما يقدر الرجال، وهو لا يستوجب التمارين العسكرية، ولا معرفة فنون القتال، فالمقاوم سلبيا فى حاجة إلى السيطرة على النفس وحسب ليصبح حرا، عكس الملوك الذين لا سلاح لديهم إلا القوة،، فهم يريدون أن يأمروا، ولكن الذين عليهم الطاعة لا يحتاجون إلى بنادق ليُعبِّروا عن رفضهم للأوامر، وهم أكثرية فى شتى بلدان العالم، وعندما يتمرسون على استخدام قوة الروح، فإن أوامر الرؤساء وتهديداتهم لن تتجاوز أنوف هؤلاء الرؤساء وأطراف سيوفهم، لأن الرجال الطيبين يحتقرون الأوامر الظالمة».

ويضرب غاندى مثالا لتلك «المقاومة السلبية» فيقول: «إننى أتذكر إمارة صغيرة اغتاظ فلاحوها لأمر جائر أصدره الأمير، فبدأوا يرحلون عن القرية مما دفع الأمير للاعتذار والتراجع، لأن المقاومة السلبية قوة للحق، ويجب أن تكون ملتزمة بالحق مهما كان الثمن، وذلك يعنى عدم الاستكانة لسلطان الخوف».

ترجمة كل ما سبق عن المقاومة السلمية لتغيير الواقع المتردى والمرشح لمزيد من التردى فى الحالة المصرية قد يبدو بعيدا عن الواقعية، فما جدوى مطالبات سلمية بالتغيير بينما يمسك المتنفِّذون بصولجان القوة ذات الأنياب وفرق البلطجة المموهة وآلة الدعاية الكذوب وخبرات التزوير المعتقة وقطعان المنتفعين الفاسدين العدوانية؟ كل هذا قد يُظهِِر المقاومة السلبية أو الرفض السلمى كنوع من الهراء الفلسفى، لكن لو حسبناها بحسابات المكاسب والخسائر لبدت لنا عين العقل. فطلب التغيير بالعنف سيُرَدُّ عليه بمزيد من العنف. بينما شجاعة الوداعة كفيلة ليس فقط بشل يد البطش عن العربدة، بل بتوليد مراجعات محتملة لدى من بقى لديهم شىء من ضمير داخل السلطة نفسها، إضافة لرفع نوعية وأعداد المقاومين السلميين، وهى زيادة كفيلة بجعل العين تنتصر فعليا على المخرز، والدم يغلب السيف.

ليست هذه شطحات مثالية، فتجربة غاندى نفسه أثبتت الفعالية الفائقة للمقاومة السلبية التى انتهجها، فنمو العصيانات المدنية للأوامر الاستعمارية البريطانية، فى مسائل الضرائب الجائرة وتسجيل النفوس واحتكار استخراج الملح، هذه المسيرة الطويلة التى بدأها غاندى من مهجره فى جنوب أفريقيا حتى عودته إلى الهند بعد 22 عاما من الغياب، وضعت مسمارا مبكرا فى نعش نظام التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا، وحررت الهند من الاستعمار البريطانى بإيقاظ ما تبقى فى الديموقراطية البريطانية نفسها من قدرة إنسانية على الخجل.

إنها القوة اللامحدودة للروح الإنسانى، والمتجلية فى شجاعة الوداعة، والتى أظن أن البرادعى يملك شيئا منها فيما تابعته، أما ما بعد ذلك فهو أمر مرهون بالمستقبل ويستلزم بعض التأمل والتريُّث، ويتطلب أيضا أن يكون لدى الخصوم حد أدنى من القدرة على الخجل، وليت هذا الخجل يكون باقيا لدى هؤلاء الخصوم، فهو طريق السلامة، ليس لرافضيهم وحدهم وللوطن ككل، بل لهم أيضا لو تحلوا بقليل من بعد النظر، أو بعض الالتفات لاقتراح مثل «المخرج الآمن من الحكم» الذى طرحه من لا يمكن احتسابه معارضا، بل هو مخلص ذكى ومحب بوضوح لرأس النظام الذى نتمنى له الشفاء.

ليس لدىّ يقين فى أن الدكتور البرادعى سيرشح نفسه للرئاسة طالما استمرت شروط الترشيح على ما هى عليه من عوار فاضح ونوايا مضمرة لاستمرار ما نحن فيه وبأى ثمن من قِبَل جحافل المنتفعين مما نحن فيه. وبغض النظر عما سيحدث فى «اللعبة» الانتخابية التى لم نعرفها أبدا إلا لعبة قذرة، فإننى متيقن أن ظهور هذا الرجل الآن، يمثل شعاعا جديدا تسرب إلى قبو حالتنا المعتمة المزمنة، شعاع غير مسبوق ومختلف قطعا عن مرشحين لعوبين، وأدعياء بطولة كاذبة، وأحزاب ورقية، وأبواق حنجورية، وتعصبات لا ديمقراطية، وجميعها تجيد عقد الصفقات الرخيصة لشراكة القهر.

هذا رجل وديع يأتينا بشجاعة قلبية ليست رنّانة ولا صاخبة، لكنها شجاعة حقيقية تتجلى فى كونه يقول رأيه الخالص الواضح، برغم تلعثمه الخفيف الطيب، بلا مناورة ولا حقد ولا تنازل، فهو يقول بصدق إنه ليس بينه وبين الرئيس مشكلة شخصية، لكنه يعترض على سياساته، ثم إنه لا يغازل قوة طائفية على حساب أخرى لصالح أجندة انتخابية، ولا يتملق أيديولوجية لا يؤمن بها لحساب الشارع الانتخابى. فهل هو غاندى مصرى يهل علينا من الغربة كما هل على الهند شبيهه فى الملامح وشجاعة الوداعة؟

أظن أن هناك شيئا من ذلك فى الرجل، لكن الوقت غير الوقت، والناس غير الناس، والعالم لم يعد لديه الكثير من رصيد الضمير الأخلاقى الذى كان موجودا حتى فى قلب الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية التى تحداها غاندى، وكان ذلك أهون تحدياته، فتحديه الأكبر كان ضد غوغائية المتعصبين من الأغلبية الهندوسية التى ينتمى إليها طائفيا وعرقيا، لأنه كان مُصِرّا على الدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة فى الهند والدفاع عن شرف عقيدتها برغم اختلافها عن عقيدته، واسمع إليه حين يقول: «لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التى من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة فى ربه وفى رسالته. هذه الصفات هى التى مهدت الطريق وتخطت المصاعب وليس السيف».

إزاء هذه الشجاعة بالذات، فإن «المهاتما»، أى «الروح العظيم» كما سمّاه شاعر الهند الكبير «طاغور»، فقد حياته على يد متعصب هندوسى أطلق عليه ثلاث رصاصات قاتلة فى 30 يناير سنة 1948 فأودت بحياته وهو يناهز التاسعة والسبعين، لكنه لم يمت فى مسيرة أمته ولا فى ضمائر تلامذته ومحبيه، وأنا أعتقد أن مأثرة الهند الديموقراطية، ومكانتها العلمية الرفيعة فى العالم، وصعودها الاقتصادى الملحوظ، وإفلاتها من ربقة الديون، واكتفاءها ذاتيا من القمح برغم تعدادها المقترب من المليار ومائتى مليون نسمة، كانت كامنة كلها فى البذرة التى غرسها المهاتما فى تلميذه الفاضل «نهرو»، أبو أنديرا المحترمة، ووالد انطلاقة النهوض الهندى المشهود!

أعتقد أن شجاعة الوداعة لدى الدكتور البرادعى فيها شىء مما كان عند شبيهه، وهى شعاع ضوء يستجمع حوله شعاعات، كهذه الآلاف التى رابطت لتستقبله حين عودته برفرفة الأعلام وصدح الأناشيد، معلنة رغبة فى التغيير باتت ملحة، وبشجاعة لا عنف فيها، اتساقا مع المنطق السوى للحياة نفسها، حيث أن «مجرد استمرار الحياة هو دليل واضح على غلبة اللاعنف»، وهذا رأى غاندى الهندى.

أما غاندى المصرى، فأمامه وأمام أمتنا الكثير، نتمنى له السلامة والسلام، ليواصل مسيرة شجاعة الوداعة،، فهى أهم هدية يقدمها لنا، ولن تكفَّ عن التفاعل، مهما اشتطت عدوانية الوضاعة، وأيّا كان الرئيس القادم.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .