حمايته وليس إصلاحه! - ريم عبد الحليم - بوابة الشروق
الخميس 23 مايو 2024 10:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حمايته وليس إصلاحه!

نشر فى : الأربعاء 11 سبتمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 سبتمبر 2013 - 8:00 ص

فى الوقت الذى تهتم فيه النظريات الغربية فى الإقتصاد بتوصيف علاقة الفرد بالموارد النادرة، فتحيد من تأثير صفاته احياناً وتصفه بالرشادة المطلقة أحياناً اخرى، اتجه الخالق عز وجل فى كتابه الحكيم بالإكتفاء بتوصيف الأرض على أنها واسعة، والعطاء على أنه غير محظور، وركز في خطابه القرآنى على تحليل العامل المحورى فى تحريك وتحليل الإقتصاد والإنتاج وهو" الإنسان"

فحدد عز وجل ضوابط علاقة الإنسان بذاته وبمن حوله كأساس لأى بناء وأى انتاج، فوصفه "خلق الإنسان أكثر شئ جدلاً"، "ولقد خلقنا الإنسان فى كبد"، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾

وطالبه بالتبصر فى ذاته قبل أى شئ "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ".  وهذبه فقال  صلى الله عليه واله وسلم: "أَفضَلُ الجِهادِ مَنْ جاهدَ نَفْسَهُ الَّتي بَينَ جَنْبَيهِ" فالكون رحب والعطاء كثير ولا يحده سوى سوء الخلق والتصارع غير الحميد على الموارد، والتى ينفى الخالق مبرر أنها "نادرة"!!

وفى تعريف البناء على الاخلاق والقيم قال جون ستيوارت ميل أحد أهم أعلام المدرسة الليبرالية فى القانون والإقتصاد مقولة رائعة "إن العدو الأول لتقدم البشرية والحريات الشخصية ليست القوانين المنظمة ولكن سلوك المجتمع ذاته"

عن الحالة المصرية، كتب قاسم أمين فى نهاية القرن قبل الماضى فى جريدة المؤيد مجموعة من المقالات تحت عنوان "أخلاق ومواعظ" اختص منها عدد لا باس به لتوصيف مشكلات الموظف المصرى.

فكتب أمين قبل أن ينتهى القرن قبل الماضى موصفاً حال الموظف المصرى الذى يؤدى إلى تدهور حال الأمة المصرية : "يذهب فى الصباح إلى الديوان، حتى إذا دخل فى قاعة شغله وجلس على كرسيه أخرج من جيبه علبة السجائر وأحرق واحدة منها، وفى خلال ذلك تأتيه القهوة فيشربها رويداً رويداً ثم يتثاءب، ويتثاءب، ومن بعد ذلك إما أن ينتقل إلى مقعده ليضجع ولو نصف اضجاع، وإما أن يمن الله بالزائرين وينفتح باب المقابلات، ولكن انظر بامعان متى دخل عليه أحد المستخدمين بورقة يريد عرضها عليه، تشاهد تبسمه قد غاب ووجهه تقطب وجاهد فى استحضار قواه ليسمع ما يعرض عليه ويعيه.... ثم تأتى إجابته وأنا مالى؟!"

العامل المصرى جزء لا يتجزأ من منظومة أخلاقية يحيا على أساسها المجتمع المصرى لعقود وهى منظومة "وأنا مالى" ، "ماذا سوف يعود على لو طورت أو اجتهدت أو بحثت ؟!"

هو مجتمع من الممكن توصيفه بمجتمع قطبية الطاقات السلبية والتى تقوم على أنا لست بفاعل كذا ولست أنا أفعل كذا.  تسود هذا المجتمع مجموعة من السلوكيات المتشابكة المترابطة التى تقوم على تجنيب المصلح وتهميشه لأنه يعرقل صفو الحياة اليومية.

تقوم المنظومة الأخلاقية على حماية مناطق السلطة المكتسبة من خلال "الطريق السهل": محو الآخر وليس مناقشته وصولاً لمنطقة مشتركة للتعايش تهمة الآخر بأى حال أنه بدايةً "منافس إحتمالى" أى "مصدر إزعاج إحتمالى" ، على سلوكيات التأمين فى مقابل سلوكيات التطوير، على سلوكيات التثبيت فى مقابل سلوكيات التغيير، على سلوكيات التقليد فى مقابل التجديد، تقوم على أدبيات التشويه فى مقابل أدبيات التفاهم ومحاولة فهم الآخر؛ فيسبق اللسان العين والأذن والعقل كأداة للتواصل، ويسبق السلاح والبطش أدوات "بناء" المجتمع وليس القانون.. إنه الطريق الذى يجب أن يظل سهلاً لكى نحيا كما نحيا دائماً "محلك سر" ..

وبدلاً عن بذل الجهد للإصلاح عمدت السياسات والقوانين المتعاقبة على تغذية مجموعة الطاقات السلبية فبنت عليها واحاطتها بالرعاية  فى ظل مبدأ "أهى تنفع برده"؛ فالوظيفة الحكومية مضمونة بعقود عمل جامدة وأيامها يجب أن تمر دون أن يتطلب الأمر بذل الجهد من أجل التطوير فى العمل، بل لابد من توفير الجهد للتفنن فى الحصول على العلاوة وتأمين الوضع السلس للحياة اليومية بالعلاقات الطيبة بالرؤساء، والرؤساء بالرؤساء وهكذا"؛ والكوادر الخاصة أداة جيدة لخلق طبقة متوسطة مرتبطة بالحاكم، ونظام الأجور مشخصن لأقصى الحدود ولا يعمل على اجتذاب المتميزين لمؤسسات الدولة بأى حال لا خلقاً ولا قيمةً...

والقوانين مليئة بالثغرات التى تعفى الكبير وتوقع بمن يريد الرؤساء الإيقاع به، والإعلام قائم على الشتامين لا تعرف لحساب من يعملون ولا لماذا لا يحاكمون، والدعوة الدينية قائمة على إثبات ان غيرك سيدخل النار وليس على البحث فى كيفية إدخال نفسك الجنة، ومنظومة الإقتصاد قائمة على قطاعين أو ثلاثة على الأكثر وهى فى الأغلب القطاعات الريعية وليست القطاعات الإنتاجية التى تتطلب بذل الجهد وحسن الخلق، وتفنن المجتمع فى النفاذ من منظومة اخلاقه السيئة لثغرات أمر وأضل بابتكار وظائف عجيبة غير رسمية تتغذى على جسد الاقتصاد الرسمى لتستوعب من لا يشعربالوطن ولا يشعر الوطن به، ومنظومة السياسة الخارجية قائمة على رد الفعل وليس الفعل...

نقاشاتنا اليومية تدور حول "أنا لست مثلك"، وليس أنا وأنت نستطيع أن.."، حول إلى من تنتمى وليس ماذا تستطيع ان تنتتج؟!...

مجموعة من الأقطاب المتنافرة التى لا تستطيع أن تعرف الحق بذاته وليس بمن يقوله، نتكاسل عن المعرفة وعن التفكير خوفاً مرة و يأساً فى إدراك منفعة شخصية من وراء الإصلاح مرة و كسلاً مرات، لقد تصالحنا مع فساد نفوسنا و"بقينا عِشرة"...

عزيزى المواطن المصرى، هل لى أن أصدمك بالحقيقة : الشعب المصرى ليس متدين بطبعه، والطفل المصرى ليس أذكى طفل فى العالم، ونهر النيل ليس خالداً وانتفاضاتنا المتتالية ليست سوى حلقات من لعبة الكراسي الموسيقية التى تدور حول المؤسسات ذاتها والصراعات ذاتها والقوانين ذاتها ولا تمسها بل تقدسها، فنصبح نحن خدماً لأخلاقنا السيئة وما تنتجبه من مؤسسات وعلاقات مشوهة، وكلما زاد تقبل المجتمع كلما حمل المستقبل الأقسي منها والأعتى منها وكلما زاد التنافر المجتمعى وكلما تفتت الوطن مع أن الجميع يسعى "لحمايته" ...

حماية الوطن منطقة راحة ضميرية رائعة للنفس comfort zone، نستطيع من خلالها الفصل بين ذواتنا والوطن فهو كائن مستقل نحبه ونحميه ولا يعانى أبداً من مشكلات فساد نفوسنا بالأساس ! ربما هنا لب المشكلة نحن نسعى  "لحمايته" وليس "إصلاحه" لأننا نتجنب مواجهة أنفسنا بحقيقتها المؤلمة، "العشرة ما تهونش برده"!! أعتذر على قسوتى ولكن كما قال شاعرنا الكبير نزار قبانى:

والشعر ماذا سيبقى من  أصالته .. إذا تولاه نصاب ومداح

ريم عبد الحليم أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة باحثة متخصصة في شؤون الفقر
التعليقات