«دفتر أمى».. حسابات الماضى المؤلمة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«دفتر أمى».. حسابات الماضى المؤلمة

نشر فى : السبت 12 مارس 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : السبت 12 مارس 2022 - 7:45 م

هذه رواية يمكن أن تُقرأ من أكثر من زاوية، لتترك فى كل الأحوال شعورًا عميقًا بالشجن، وربما الألم أيضًا، ذلك أنها تعيد سيرة الأمس بكل تفاصيلها، وتختبر علاقات عاطفية ونفسية معقدة، وتواجه كل ذلك، مهما كانت النتائج.
يمكن أن تقرأ رواية «دفتر أمى»، لمؤلفها وجدى الكومى، والصادرة عن منشورات إبييدى، باعتبارها دراسة لعلاقة متقلبة بين ابن ووالده، بعد أن انقلبت الموازين، الأب مريض، والابن يرعاه ويمرضه، وبعد أن كان الأب هو الأقوى، صار لا يملك من أمره شيئًا، بسبب مرض باركنسون اللعين.
ولكن هذه العلاقة المقلوبة، ستأخذ مسارًا مختلفًا، بإعادة قراءة الماضى كله، ماضى العائلة الصغيرة، وتفاصيل العلاقة الأبوية الماضية، والتى لم تكن سارة على الدوام، وهكذا ننتقل تلقائيًا إلى تفكيك للسلطة الأبوية وحدودها، مع نظرة انتقادية عارمة، فهذا المريض الذى لا يستطيع أن يذهب إلى الحمام بمفرده، كان موفور الصحة، يلعب الملاكمة فى شبابه، ويصدر أوامر لا ترد يجب أن ينفذها الابن، وأن ترضخ لها الزوجة، كان جافا فى التعامل، وفى تصرفاته أمورٌ غامضة، لن يعرفها الابن إلا فى النهاية، لم تتحسن الأمور بينهما، إلا بعد موت الأم، وبعد أن انتقل الابن للعيش بمفرده، من شقة الأسرة فى المطرية، إلى شقته الخاصة فى فيصل.
ولكن النص يمكن أن يقرأ أيضًا من زاويتين: زاوية الابن، الذى يحلم بالسفر إلى سويسرا، وكان قد اختبر من قبل لعدة شهور حياة مغايرة فى الخارج، اعتبرها مثل الجنة، بينما يرى الحياة فى بلده رتيبة، وتدور به فى حلقة مفرغة، ولكن مرض الأب، ورفض الابن أن يرسل والده إلى دارٍ للمسنين، يجعل الابن فى مأزق، فكأن المرض يفتح على الأب، والأب يعيده إلى الماضى المؤلم، والاثنان يشدانه إلى البقاء، بينما يريد هو أن يسافر ويتحرر.
من زاويةٍ أخرى، فهناك سر تمتلكه الأم سعاد، عن الأب أحمد، وسيحدد هذا السر قرار الابن محمود، الذى يرى فى الكتابة والسفر طوق نجاة، الحكاية من هذه الزاوية هى قصة الأم سعاد، سواء فى حياتها الغامضة قبل الزواج، أو فى احتفاظها بالسر فى دفتر حساباتها اليومية للطعام والشراب، هى أيضا تمتلك حكاية، مرتبطة بمصير الأب والابن معًا.
هنا وجوه مختلفة، ولكنها مترابطة، محورها الأب، وساردها الابن، وصاحبة سرها الأم، ورغم أننا نتحدث عن أسرة واحدة صغيرة، كان أفرادها يعيشون معًا منذ سنواتٍ قليلة، وفى بيت واحد، فإن البدء بحكاية الأب، ثم الحديث عن رحلة الابن السابقة إلى أوروبا، ثم العودة إلى سر الأم، جعلنا أمام حقيقة تفكك كامل للأسرة، ومحاولة لاستعادة جوانب قصة منسية وغامضة، يفجرها مرض الأب، وطفولته فى سن الشيخوخة، والبحث عن سر الحكاية فى بيت المطرية.
يبقى الابن محمود فى أصعب المواقف، فعليه هو أن يقرر موقفه من البقاء مع الأب، أو إيداعه دارًا للمسنين، أو الاستمرار فى محاولته اليائسة لتحسين حالة الأب الصحية، وهو أمر شاق وعسير، بينما رحلت الأم، تاركة دفترها وكلماتها، أما الأب فلا اختيار له، فقد صار أسير مرضه وعالمه المحدود، وإن ظلَّ على عناده، وعلى رفضه أن يبوح بسره القديم.
قارئ الرواية سيشعر بحيرة محمود، الذى يمتلك دوافع أخلاقية وعاطفية لرعاية والده، ولكنه يمتلك أيضًا وعيًا يدفعه لاكتشاف سلطة الأب، وانتقاد قراراته الخاطئة، ومشروعاته الفاشلة، ومحاكمته فى مواقف كثيرة سابقة، ثم تتحطم العلاقة تمامًا، باكتشاف سر الأب القديم، من خلال دفتر الأم المهترئ.
يصنع السر حلًّا قدريًا يسهل على الابن قراره الأخير، بحيث يتيح له التحرر والسفر بأقل قدر من الشعور بالذنب، وكأنه الاقتراب الأخير من الأب ومن الوطن معًا، وكأنه لا يمكن الخلاص إلا بتصفيه حسابات الأمس كلها، هناك بعض الشعور بالعرفان، وهناك أثر العشرة والتعود، ولكن يبدو بوضوح أنه لا يمكن أن يبدأ الابن فى مكان آخر، إلا بالتخلص من العلاقة الأبوية، بكل تفاصيلها وأسرارها.
هناك ما يغرى بقراءة نفسية لها تجلياتها فى الرواية، فالأب هو محور النص، ولكن الرواية تحمل اسم «دفتر الأم»، مع أن الدفتر مفتاحه أسرار كان يحتفظ بها الأب عن ابنه، والابن محمود يكتب عن علاقته بأبيه، ولكنه يكتبها فى شكل خطابات باللغة العربية، موجهة إلى كارولين، الفتاة السويسرية التى يحبها الابن، والتى تبدو علاقته بها غامضة، أو على الأقل ملتبسة، فهى حاضرة بالأساس كاسم يفتتح الخطابات، ونعرف أنها ترسل له دعوة جديدة للسفر، ولكننا نعرف أيضًا أن فى حياتها شخص اسمه ليو.
السارد يكتب عن الأب بلغة لا تفهمها كارولين، ولن يرسل الخطابات أصلًا، ولكن هذه الفتاة الأجنبية تمثل الحلم بالخلاص، وتمثل فرصة أخيرة لحياة مختلفة، وسيكون أسهل نفسيًّا للسارد أن يكتب عن الأب طوال الوقت، وأن يعترف بشعوره بالذنب بسبب ظروف والده، ولكنه لن يمنح الأب أبدًا عنوان النص، ولن يكتب النص إلا لفتاة أجنبية، أيا كانت علاقته بها، وسيعيد تشكيل صورة الأب، عبر كلمات الأم، التى تحدد الموقف من الأب رغم غيابها.
يعنى ذلك أن رحلة العناية بالأب، كانت فى جوهرها رحلة محاسبة وخروج وانفصال، كانت محاولة للابتعاد والبداية الجديدة، ويعنى ذلك أيضًا أن كارولين، ودفتر الأم، هى أدوات ووسائل هذه الرحلة للانفصال والتى ستتحقق فى النهاية.
جيل يخبو، وجيل يريد أن يتحقق، لن يبقى محمود لا فى شقة فيصل، ولا فى المطرية، فالماضى ليس مشرفًا، وفيه الكثير من الفضائح، والحاضر رجل مريض.
ولكن هل تحلُّ كارولين وسويسرا المعادلة؟ هل تشفى الغربةُ الجراح أم تزيدها؟ وقد رأينا نموذجًا لمهاجر مصرى قديم يعيش حياة غريبة مع زوجته؟
سؤال جديد معلق من رواية تثير التأمل.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات