المبادئ لا ترحل - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 2:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المبادئ لا ترحل

نشر فى : الخميس 13 مارس 2014 - 5:35 ص | آخر تحديث : الخميس 13 مارس 2014 - 5:35 ص

مع حلول شهر مارس من كل عام تعاودنى حالة الشجن التى لازمتنى منذ استشهاد القائد عبدالمنعم رياض رئيس أركان القوات المسلحة المصرية عقب هزيمة يونيو على خط النار مع إسرائيل فى التاسع من مارس عام 1969، وكلما اقترب ذلك اليوم يشتد بى الحنين إلى ذلك القائد العظيم، وفى يوم استشهاده نفسه تضيع قدرتى على السيطرة على مشاعرى كلما شاهدت اللقطات النادرة التى تعرضها الفضائيات المصرية عن الراحل العظيم وكانت ملامح الرجل جادة صارمة ولا أذكر أننى رأيت له يوما صورة أو لقطة وهو يبتسم لكن وجهه كان يشى مع ذلك بود وحنان لافتين، وعندما شاركت فى وداعه فى جنازة رسمية شعبية مهيبة وعلمت أن عبدالناصر يتقدم موكبه غير مبالٍ بإصرار الجهات الأمنية على خطورة هذه المشاركة فى مناسبة لا يمكن تأمينها أصلا، وأدركت ساعتها أنه يدرك قيمة الرجل ومعنى استشهاده على هذا النحو، وعندما سمعت أصوات نحيب وولولة وهتافات تأتى من أعلى وتكاد تطغى على أصوات المشاركين فى الموكب نظرت إلى الأعلى فإذا بكل شرفات ونوافذ بنايات شارع طلعت حرب تمتلئ بكتل بشرية يصر كل فرد فيها على أن يلوح للشهيد العظيم أو يهتف له بمشاعر الحب والعرفان. تيقنت فى تلك اللحظات وكنت فى ريعان شبابى أنتظر تخرجى فى الجامعة بعد شهور ــ أن الشعب المصرى يدرك معنى التاريخ وأن لديه قدرة لافتة على أن يفرق بين العارض والأصيل. كرر هذا الشعب سلوكه هذا بعد سنة ونصف عندما ودع قائده التاريخى جمال عبدالناصر بل لقد كرره بعد عقود عندما امتلأت الشوارع والشرفات فى الساعات الأولى من صباح يوم انتقال تمثال رمسيس الثانى من ميدان رمسيس إلى المتحف المصرى الكبير.

فى هذه السنة استبقنى إلى الذكرى الباقية لاستشهاد عبدالمنعم رياض رحيل المناضل البارز الصلب عزازى على عزازى فزادنى شجنا على شجن. لم تربطنى بالراحل الكريم علاقة شخصية إلا فى الشهور الأخيرة من حياته، لكنه فرض نفسه على وعيى السياسى بنضاله الدءوب فى حركة المعارضة ضد نظام مبارك. لم يترك وسيلة فى هذا الصدد إلا والتمسها، فهو عضو لجنة تنسيق حركة «كفاية» التى اعتبرها المقدمة الأولى من مقدمات ثورة 25 يناير، وقد امتدت عضويته فى هذه الحركة ما بين سنتى 2005 و2010، وهو عضو ائتلاف المصريين من أجل التغيير، عضو مؤسس لـ«المجلس القومى للثقافة القومية» وعضو «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية» وعضو «أمانة مؤتمر أدباء مصر»، وهو إعلامى بارز له مشاركته الواعية فى البرامج الإذاعية والتليفزيونية وكذلك فى الصحافة المصرية حيث عمل فى صحف «الجمهورية» و«العربى» و«الموقف العربى» و«الكرامة» التى تولى رئاسة تحريرها وجعلها صحفا لا ينكر دورها فى حركة معارضة النظام السابق. كتب فى الأدب والرواية اتساقا مع تخصصه الأكاديمى، فهو خريج كلية الآداب بجامعة الزقازيق لكنه تجاوز ذلك إلى الكتابة فى التاريخ والسياسة: «تعريب التاريخ العربى» و«الناصرية» «تجاوزتنا أم تجاوزناها؟».

•••

عندما تفجرت الثورة فى الخامس والعشرين من يناير 2011 كان طبيعيا أن يكون «عزازى» فى طليعتها المتقدمة فهو صاحب تاريخ ناصع فى حركة المعارضة التى مثلت مرحلة أساسية فى التمهيد للثورة. وقع على نبأ اختياره محافظا للشرقية فى عهد الثورة وقعا جميلا، وغمرنى شعور بالتفاؤل بالمستقبل، فها هو مناضلنا الثورى الصلب يتولى موقعا تنفيذيا بارزا ويصبح المسئول التنفيذى الأول فى المحافظة التى شهدت مولده، وهو فيما أعلم أول محافظ «ثورى» منذ أربعين عاما على الأقل، لكن الوقع الأجمل كان لاستقالته فور تأكد انفراد «الإخوان المسلمين» بالسلطة، كان تفسيره الواضح أنه ليس بمقدوره أن يتعامل معهم. تأملت ساعتها فى الفارق بينه وبين «أصحاب فيرمونت» الذين توهموا إمكانية التوصل إلى ميثاق أو حتى كلمة شرف مع المرشح الرئاسى الإخوانى آنذاك: نبايعك وتعدنا بالالتزام بمطالب الثورة وكانت فى موقفهم هذا طيبة لا تغتفر على ضوء الخبرة التاريخية لحركة «الإخوان المسلمين»، لكن عزازى رجل مبادئ قبل أن يكون رجل حركة سياسية. كان بمقدوره أن يمالئهم، وكان بإمكانه أن يقول ما قاله كثيرون قبله وضعتهم مناصبهم فى تعارض مع ما عرف عن مبادئهم: لنحاول فإذا أخفقنا تركنا، وعادة ما كانت المبادئ تتسرب من بين أصابعهم بالتدريج، لكن عزازى ليس من هؤلاء غادر المنصب من فوره وعاد مرفوع الرأس إلى موقعه البارز فى النضال الشعبى.

كانت آخر مرة التقيته بها يوم أن شرفنى بحضور حفل التكريم الذى بادر «التيار الشعبى» بتنظيمه لى قبل سفرى بأيام قليلة فى نهاية أكتوبر 2013 إلى باريس لإجراء عملية زرع الكبد. جمعنا مرض واحد لكن حالته كانت أكثر تعقيدا من حالتى مما زاد من تعاطفى الإنسانى معه. سلم علىّ يومها بابتسامة حنية وتمنى لى الشفاء ورددت عليه بتمنٍ مماثل ولم يكن يعرف موعد سفره إلى بكين لإجراء عمليته. لم تكن علامات المرض اللعين بادية على وجهه الذى تشع منه ملامح طيبة ظاهرة ولا حتى على جسمه الرشيق، وتابعت تطور حالته بعد إجراء العملية ولم يكن فيما يصل عنها من أنباء ما يطمئن كثيرا، إلى أن كان النبأ الأليم وكان وقعه الأكثر إيلاما على كل من عرف هذا المناضل الصلب صاحب المبادئ التى لا تموت. صُدمت بلا حدود عندما أطلعنى البعض على ردود فعل نفر من خصومه السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعى إذ لم يغفروا له وعيه التام بالمخاطر الجسيمة التى تهدد الوطن المترتبة على انفرادهم بالحكم. ولولا بشاعة ردود الفعل تلك التى تخرج أصحابها من دائرة الإسلام والإنسانية معا لاستشهدت ببعضها كمؤشر على الكراهية التى تأصلت فيهم والتى تحول بينهم وبين إمكانية استعادة المكانة التى كانت لهم يوما لدى ملايين المصريين.

لم أحضر ليلة عزائه لأن قيودا ما زالت تحيط بطاقتى لكن من حضر وصفها لى وكان ما توقعته عنها صحيحا. لا أجد ختاما لهذه السطور أجمل من كلمات العزاء الصادقة التى سطرها طبيبه الثورى البارع عمرو حلمى: «عزازى استقالتك غير مقبولة.. ابق لنا ولمصر وللثورة».

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية