الشمس تشرق ليلًا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 6:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشمس تشرق ليلًا

نشر فى : الخميس 13 سبتمبر 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : الخميس 13 سبتمبر 2012 - 9:05 ص

فى الكتابة عنصر لا إرادى، بمعنى أن له آليات ذاتية الحركة خارج التصميم المسبق والتوجيه العمدى الصارم للكاتب، أشبه ما يكون بعمل القلب ذاتى الحركة، وإن كانت هناك قوانين تحكمه تتجاوز قدرات تحكُّمنا العقلى. لكن كما القلب دال على صاحبه، كذلك هذا النوع من الكتابة. ومن ذلك أننى خططت للمضى فى مسارين أكرس لهما جهدى فى الفترة القادمة، ويرتبطان أشد الارتباط بقناعتى العقلية والأخلاقية، بل الروحية، وهما محاربة فخ المفاعلات النووية، والتبشير بالطاقات الجديدة، ليس فقط لأننى مؤمن بأن سلامة الإنسان من سلامة البيئة، وأن الغرور البشرى والغطرسة «العلمية» مقامرة لابد خاسرة فى الحساب النهائى، بل لقناعتى المطلقة أن قوانين الطبيعة والحياة الفطرية التى أبدعها الله، عندما يُعصَف بها لاتُخلِف إلا الخُسران الأكيد المبين، وأنه ما من تكنولوجيا وحداثة تجافى الفطرة إلا مآلها كارثة. وقد كنت شاهد عيان على كارثة كبرى من هذا النوع فى تشيرنوبل، وأودعت شهادتى التوثقية والإبداعية فى كتاب منشور بالعربية ومُترجَم إلى الإنجليزية هو «فصول تشيرنوبل الأربعة»، فالمسألة بالنسبة لى قناعة بالحس والتجربة والمعرفة، والإيمان، لمن يفهم الإيمان كتسليم بعظمة الله، وتسلُّم لأمانة الحياة فينا، ومن حولنا.

 

فى هذا الإطار خططت لمقالة هذا الأسبوع أن أرد بما أعرف على اتهام يوجه للطاقة الشمسية بأنها تنقطع مع حلول الظلام وتهوى فى النهارات الغائمة، وكما يحدث فى تيار التداعى اللاإرادى، ما أن طفا العنوان «الشمس تُشرق ليلا» على سطح الذهن المتهيئ للكتابة، حتى تحول بلا عمد إلى ما يشبه مغناطيسا يجتذب عناصر تندرج بتلقائية تحت هذا العنوان، فإلى جوار موضوع تواصل عمل الطاقة الشمسية ليلا، وجدت ما يلحق بالإعلامية المبدعة والمحترمة نجمة «العاشرة مساء» منى الشاذلى، يتوارد إلى خاطرى، كما وجدتنى أستعيد ذكرى بعيدة لأيام مدهشة قضيتها فى مدينة «بطرس برج» المطلة على بحر البلطيق، عايشت خلالها تلك الظاهرة المذهلة التى يسمونها « الليالى البيضاء».

 

فى ليالى بطرس برج البيضاء تلك، لا يحل الظلام أبدا، وترى السماء منيرة كما فى ظهيرة غائمة طوال ما يسمى بالليل، فلا ليل هناك فى هذه الفترة من قلب الصيف التى تبصر فيها الشمس والقمر طيفين متجاورين فى سماء بلون الفضة الكاسِفة، فلا يكون النوم فى تلك الليالى نوما، ولا اليقظة بعدها يقظة، ويمتلئ المتأمل بشعور من الهشاشة البشرية فى مواجهة الكون، لا يدعمه فيها غير الإيمان بالرحمن الرحيم، أو ينسيه إياها الضياع فى العبث. وهذه الازدواجية عبر عنها بسطوع باهر، أديب روسيا الكبير دوستويفسكى ابن هذه المدينة التى تشرق شمسها فى الليل.   

 

وعن شمس مختلفة أشرقت فى ليالينا، أتذكر تعبيرا تسرب عن الرئيس السابق مبارك الذى كان كارها لبرامج «التوك شو» التى توهجت فى فضاء الليل المصرى أنذاك، خاصة برنامج «العاشرة مساء»، قال فيه عن مقدمى هذه البرامج «بيضلِّموا مصر بالليل»، وكان ذلك تحريضا لتابعيه أن يقوم كل منهم بـ«الواجب» تجاه هؤلاء، ولما لم يكن أمام منى الشاذلى ولا أمامها ما يمكن أن تتسلق أكاذيبهم عليه لتشويهها، فقد عمدوا للضغط  اقتصاديا وبطريقة فظة وجائرة على الدكتور أحمد بهجت حتى انشق قلب الرجل، ولم ينسوا منى الشاذلى بالطبع، فهناك وسائل للضغط والترويع لا تترك آثارا مادية، لكنها تنهك النفس وتهد الروح، وقد اضطلع بها وزير إعلام مبارك ليجعل نجمة العاشرة مساء الزاهرة ترتعش داخليا من القهر لا الخوف، فقد أظهرت شجاعة جميلة ونبالة مهنية، فلم نرها غير مشرقة وسلسة على امتداد سبع سنوات من عمر «العاشرة مساء»، لم تكف طوالها عن إماطة اللثام عن شجون مصر، والاحتفاء بفتونها.

 

لقد كانت أعوام منى الشاذلى والعاشرة مساء ودريم السبعة، صفحة عز فى تاريخ الإعلام المصرى، ومناط هذا العز أنها كانت تقليبا مجتهدا وشجاعا وذكيا فى تربة الوطن لتعريضها للشمس التى تشرق ليلا، شمس الكشف والمواجهة والمعارضة الذكية والرفض المضىء، وأعتقد أن هذا البرنامج طوال سنوات منى الشاذلى السبع، كان من ممهدات الثورة، شأنه شأن حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير وجسارة الوداعة عند الدكتور البرادعى وحركة 19 مارس لاستقلال الجامعات، والصحف المعارضة، وحركات شباب الثورة بكل أطيافهم، وقد تميزت منى الشاذلى بأداء إعلامى خاص أصنفه فى خانة الإبداع، فصارت نجمة فوق العادة وبألفة بناتنا وأخواتنا، فأحبتها بيوت المصريين، والعرب أيضا.

 

فى حدود ما أعلم، لم تُرِد منى الشاذلى المُغادرة لأن عرضا من قناة أخرى أغراها لينتزعها من دريم، ولكن لأن هناك تراكمات صغيرة تحولت إلى انفجار إثر إهمال تقنى غير مقصود، أدى إلى عدم تسجيل ساعة مهمة أنجزتها فى وقت بالغ الحساسية، وهذا أمر وارد الحدوث ويمكن تمريره لدى كثيرين، إلا أن هذا لا يمر مع المبدعين، وهو أمر أعرف جسامته، فلو أن ناشرا قدمت له نسخة لا أمتلك غيرها من عمل أدبى أنجزته وأضاعه، مع إيمانى الكامل ببراءته من كل شر، إلا أننى نفسيا سأجد صعوبة الاستمرار معه وإن بقيت المودَّة. هذه هى حساسية المخلوق الفنان، فى أى مجال كان فنه. وأتوسم أن يتفهم الدكتور بهجت ذلك، فهو أيضا يمتلك حس المبدع فى اختصاصه العلمى والتقنى، كصاحب اختراعين عالميين مسجلين باسمه، وآمل من دريم أن تختار نهاية مضيئة، لشمس أشرقت فى الليل من استوديوهاتها لسبع سنوات كاملة.

 

 أما عن الشمس الثالثة التى تشرق فى الليل والتى استقطب عنوانها كل ماسبق، فهى الطاقة المتحصل عليها من وسائل اقتناص الطاقة الشمسية لأغراض الحصول على الكهرباء، سواء بالخلايا الكهروضوئية التى تحول اشعة الشمس مباشرة إلى تيار كهربائى، أو بتركيز حرارة الشمس عن طريق اشكال مختلفة من المرايا على بؤر ترتفع حرارتها إلى درجات حرارة كافية لتحويل الماء إلى بخار يدير تربينات لتوليد الكهرباء، فثمة فرية قديمة تقول بأن هذه الطاقة تنقطع مع غروب الشمس وتضعف فى الأيام الغائمة، والحاصل أن ذلك تم تجاوزه بأساليب متعددة، بعضها مكلف الآن ولن يكون كذلك فى الأفق القريب للتقدم العلمى مثل البطاريات، وبعضها تنظيمى يعتمد على منطق «خد وهات»، بمعنى أن ترتبط مولدات الكهرباء بالطاقة الشمسية سواء كانت محطات كبيرة أو وحدات صغيرة، بالشبكة القومية للطاقة، تعطيها بالنهار وتأخذ منها فى الليل أو فى الطقس الغائم، ويتم حساب الفارق، وقد كان الفارق فى صالح موردى الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية عبر ألواح الخلايا الكهروضوئية التى تغطى أسطح بيوتهم فى مشروع «المليون سطح» الذى أنجزته ألمانيا بدلا من مفاعل نووى. أما الطريقة الثالثة فهى مدهشة، وتتعلق بالمجمعات الحرارية الشمسية، وتستخدم فيها مواد رخيصة ذات سعة حرارية نوعية عالية، أى تستطيع تخزين الحرارة المرتفعة المتأتية عن الشمس، بكفاءة ولفترات طويلة، منها شمع البرافين والملح المصهور!

 

لقد بدأ تجريب هذه الطريقة على نطاق تجارى عام 2006 فى محطة حرارية شمسية أمريكية تستخدم تربينات بخار ألمانية فى صحراء نيفادا أُسميت «سولار 1» لنقل الفائض من محصول الحرارة الشمسية المكثفة بالمرايا العاكسة إلى خزان مملوء بالزيت ذى السعة الحرارية المرتفعة ليعوِّض النقص المتسبب عن غياب الشمس ليلا أو تعتيمها فى الأيام الغائمة، بعد ذلك تطور التخزين الحرارى فى محطة تالية أكبر هى «سولار 2» بقدرة 10 ميجا تضىء 7500 منزل، وخُزِّن فائضها الحرارى بنجاح أكبر فى صهاريج مملوءة بملح نيترات الصوديوم بنسبة 60% وبنسبة 40% نيترات البوتاسيوم، وأخيرا فى «سولار 3» خُطِّط للملح المصهور أن يختزن طاقة 60 ميجا وات ساعة تسمح لمفاعل شمسى أكبر كثيرا، أن يعمل 24 ساعة لسبعة دون تذَبذُب، وهذا يعنى فى بلد كمصر تنعم بسطوع شمسى لأكثر من 300 يوم فى السنة، أن تظل شمس هذه الطاقة الجديدة النظيفة المتجددة، مشرقة حتى فى الليل.

 

أخيرا، أسأل شمس الضمير التى لاتغيبها ظلمة الغطرسة العلمية ولا تحجبها غيوم الاحتكارات الدولية والمصالح الشخصية، هل هذا وقت يصلح للاندفاع فى شراء مفاعلات نووية بينما مصر تعانى اقتصاديا وأمنيا، وتسودها عشوائية وغوغائية لاتتيحان لأية شفافية أن تكون ولا قيم عمل محترمة أن تستقر ولا وطن أن يتماسك؟! وأخشى ما أخشاه أن يعود «الحلم النووى» المزعوم، الذى تم ترويجه للتدليس فى خراقة التوريث، لكى يوظَّف من جديد فى التغطية على انكشاف الإفراط فى وعود التنمية والنهضة، فالحادث أن ما كان بالونات اختبار يطلقها المروجون للمشروع النووى، يتحول الآن إلى كمائن حصار لمتخذ القرار. والأمر جلل.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .