دعك من كل الجدل حول التأسيسية وأدائها، بين من يصعد بها إلى سماء الإنجاز مدعيا أنها تكتب أعظم دساتير العالم، وبين من يهبط بها إلى أسفل سافلين، وتعال لأفترض معك من البدء أن الجمعية التأسيسية فى تشكيلها كانت معبرة عن كل المجتمع المصرى بتنوعه وتمايزه واتجاهاته.
لا تتحدث عن النسب والتناسب وجدل الأغلبية والأقلية، فتلك قضية أخرى، انظر فقط للتمثيل أى كان حجمه، ستجد فى القلب منه المحجبة والكاشفة، الأبيض والأسود، المسلم والمسيحى، من يرتدى الملابس الأفرنجية، ومن يرتدى الأزياء البدوية، ومن يلبس الجلباب الوهابى، ومن يلبس الجلباب الفلاحى.
يقولون إن النوبة ممثلة ــ أو كانت كذلك قبل استقالة منال الطيبى ــ وإن سكان الأطراف ممثلون من سيناء إلى الصحراء الغربية، حتى المسيحيين أنفسهم لا يقتصر تمثيلهم على الأرثوذكس الذين يشكلون غالبية الأقباط فى مصر.
بين أعضاء التأسيسية من يتذوق الموسيقى، يسمعون فى الإسماعيلية أنغاما فى الأفراح غير تلك التى يسمعونها فى أسوان أو فى قلب الدلتا وبين جبال سيناء، تختلف قيم زواجهم وقواعدها، تتنوع طريقة نطقهم للكلام، تختلف وسائل طهوهم، ومذاق أطباقهم، كل منهم يعبدالله على طريقته وبفهمه وبإيمانه، كل منهم يمكن أن تراه نتاج حضارة من الحضارات التى ازدهرت فى مصر أو مرت عليها فاكتسبت روحا مصرية وشكلا مصريا.
كل هذه الوجوه التى يمكن أن تراها جالسة على مقاعد الجمعية التأسيسية، الأرجح أنهم لا يرون بعضهم رغم ضيق المسافات بين المقاعد، وإلا ما كانت مسودة الدستور خرجت بمادة تتحدث عن «التزام الدولة بحماية الوحدة الثقافية والحضارية للشعب المصرى»، على الرغم من أن هذه الوحدة غير متحققة داخل الجمعية التأسيسية ذاتها التى مازالوا يصرون على أنها ممثلة لكل المجتمع.
ربما كان هناك إطار ثقافى وحضارى يجمع كل المصريين، لكنه إطار يجمع فى إطار التنوع، وليس فى إطار التوحد الذى تلتزم الدولة بحمايته، وحساسية التأسيسية من الاعتراف بهذا التنوع ليس لها ما يبررها على الأقل فى ضوء تشكيلها الحالى على الأقل، فإذا كانت لا ترى التنوع فى تشكيلها فكيف ستراه فى المجتمع.
لدى الجمعية هاجس أن المجتمع مفكك وأن أخطار الانفصال محدقة وتأتى من كل صوب وحدب، لذلك تؤكد أن «الأراضى المصرية غير قابلة للتجزئة»، وكأن النصوص الدستورية هى التى تحمى الوحدة الجغرافية للدولة، وليست ممارساتها وسياساتها التى تدفع دعاوى الانفصال للترويج واكتساب الأنصار، جنوب السودان لم ينفصل لأن دستور البشير لم يكن فيه نص على أن السودان غير قابل للتجزئة، ولكن لأن هناك سياسات حقيقية صبت فى صالح التجزئة، أولها عدم الاعتراف بالتنوع، وما يلى ذلك من تهميش وإقصاء.
التنوع رحمة وقوة.. لكن أعضاء التأسيسية لن يروا ذلك، لأنهم فى الأصل لا يرون أنفسهم داخل القاعة، فكيف نأمل منهم أن ينظروا خارجها.