الوجيز في فن التعجيز - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الوجيز في فن التعجيز

نشر فى : الأربعاء 14 أكتوبر 2009 - 10:16 ص | آخر تحديث : الأربعاء 14 أكتوبر 2009 - 10:16 ص

 عندما استتب الأمر للسادات أعلن أن النظام الذى يسعى إلى بنائه يستهدف إقامة دولة مؤسسات فى ظل سيادة القانون. وكانت المؤسسة التى كرسها هى سلطة الرئاسة.. أما القانون فكان هو سلاحه ضد من عارضوه فى المنهج الذى ضيع به ثمار نصر أكتوبر.

وكان الأمل معقودا على أن يقوم خلفه برد الأمور إلى نصابها، خاصة بعد أن بدأ عهده بإطلاق سراح ضحايا خريف الغضب، ثم بعقد مؤتمر اقتصادى ساهمت فيه جميع القوى، وطرح فيه اليسار رؤية فى إطار النظام القائم بعيدا عن التمسك بالثوابت الأيديولوجية. إلا أن الخلاصة تحطمت على صخرة مشكلة هى الزيادة السكانية. ولم يكن ذلك يستدعى الاستسلام لليأس، ففى النهاية البشر هم موضوع التنمية وأداتها وهدفها.. فالتنمية للناس بالناس ومن أجل الناس.

التحدى كبير.. ولكن العزيمة التى عرفت كيف تقلب الهزيمة إلى نصر كانت أهلا للتصدى له. ومضت السنوات فإذا بالتنمية تتحول إلى تعجيز من خلال المؤسسات والقانون بل والتلاعب بالدستور.

******

هناك اتفاق على أن التنمية الجديرة بالاعتبار هى التنمية البشرية أو كما يحلو للبعض تسميتها الإنسانية بأركانها الثلاثة: سلامة بدنية تتيح للإنسان أن يستطيب الحياة، وتحصيل علمى يزود العقل بما يلزم للإسهام فى التنمية والاستمتاع بثمارها، وموارد يجنيها جزاء جهوده بالقدر، الذى يكفيه للحصول على طيبات الحياة ورفع نوعيتها.

وحتى تتصف هذه التنمية بالاستدامة جيلا بعد الآخر، أضيف إلى هذا نقاء البيئة مما يلوثها والحيلولة دون وقوف نضوب مواردها حائلا أمام مواصلة ارتقاء حياة البشر.

ويتطلب كل هذا تبنى إستراتيجيات واتباع سياسات تساعد على «تمكين» الناس، ذكورا وإناثا من الحصول على أنصبة عادلة من كل من هذه الأبعاد، وتجنيبهم شبح الفقر الذى يصاحب ضعف القدرة على تحصيلها.. فإذا بالتمكين يتحول إلى تعجيز.. وإذا بحديث المؤسسات ينحو منحى آخر، يُسقط أولا ركن العدالة من ثنائية الكفاية والعدل، التى اعتمدتها الستينيات لينتهى إلى قصور فاضح فى الركن الآخر وهو الكفاية.

ولم يكن الأمر بحاجة إلى عبقرية.. فالهدم أيسر كثيرا من البناء، وكان الأسلوب الذى اتبع يقوم على أساس واحد هو الفردية. فتحول الأفراد إلى مؤسسات بدءا من القمة إلى القاعدة.. وإذا بالحجة التى تساق هى الاستقرار.. ليس بمعنى انتفاء الحاجة إلى التغيير بل ببلوغ القرار الذى ليس دونه قرار فهو الوحيد الذى يوقف أى حركة للنهوض.

فماذا حدث فى أركان التنمية البشرية المستدامة؟ بما أن دوافع الإنسان وقدراته تتوقف على ما يحصله من معرفة، كان لا بد أن يتولى شئون التعليم من يستطيع أن يطيح به ذات اليمين وذات اليسار، ويثير قضايا الكم ليحجب بها قضايا الكيف التى هى جوهر التعليم. وكان لا بد من استقراره فى موقعه ليُجرى تجاربه الواحدة تلو الأخرى، ليترك عند تركه موقعة تركة من الألغاز والأحاجى، التى لا يفلح فى حلها ما ينسب إلى مبارك أو إلى مبارك وكول. وفى عصر المعلومات تلعب وسائط الإعلام دورا مهما يمتد على مدى حياة الإنسان.

وفى بلد تتجاوز الأمية ثلث الشعب تكون للوسائط المرئية تأثير السحر، فإذا بها تنحط إلى مستوى الأميين، لتستقر عنده، وتزيف الوعى بدلا من أن تنهض بدورها الأساسى فى التوعية، وفى إتاحة المعرفة للكافة. وكان هذا يتطلب بقاء المسئول عن الإعلام المدة الكافية لتمرير وتثبيت عملية التعجيز. وبين تحطيم التعليم وتدمير الإعلام تاهت القاعدة، التى تقوم عليها المجتمعات المتحضرة وهى التربية، التى توارت خجلا بعد أن تولت المؤسسة الثالثة، وهى الثقافة، كبح جماح الحركة الثقافية التى ازدهرت فى ظل مجتمع كان شعاره هو «ارفع رأسك يا أخى».

هكذا بدلا من انتظام الجميع فى إطار مؤسسات ذات رسالة نهضوية قادرة على دفع عجلة التنمية نحو غاياتها السامية، تحولت المؤسسات إلى أشخاص يطول بقاؤهم بقدر سوء أدائهم.

والأغرب من ذلك أن المكافأة التى تنتظرهم هى استقرارهم فى مواقع أحرى أشد تأثيرا على رسم السياسات وسن التشريعات وصياغة الأهداف ووضع الإستراتيجيات. واستكملت عملية تفريد المؤسسات التعليمية بتسليمها ليس فقط إلى أفراد، بل تحبيذ أن يكونوا أغرابا ليبثوا حضارات توصف تعسفا بأنها حديثة ومتقدمة.

وجاء هذا فى سياق عمليات يطلق عليها اسم «الخصخصة» فى ظل برامج توصف بأنها إصلاح اقتصادى، تتفانى فى مساندتها مؤسسات اقتصادية دولية مؤتمرة بأوامر القوى الرأسمالية، التى قادت العالم إلى كارثة غير مسبوقة.

وكان أقصى ما ذهبت إليه المؤسسات المعنية برفاهية الفئات الأضعف فى المجتمع، هو أن يكون الإصلاح ذا «وجه إنسانى»، دلالة على أنه يظل لا إنسانى، فيجرى تمريره من خلال قناع على وجهه. وتجلت اللا إنسانية بأجل صورها فى مجال الصحة، سواء فى الصحة الوقائية أو العلاجية، التى يحرم المحتاج إليها من إمكانية تدبيرها بسبب مرضه. فإذا بالمستشفيات تتحول إلى مؤسسات استثمارية، وإذا بالدواء يصبح ساحة لمعارك شرسة السلاح الأساسى فيها هى حقوق الملكية الفكرية.

ويصاحب ذلك تدمير متواصل للبيئة، سواء من خلال الملوثات التى تتخلص منها المستشفيات بطريقة منافية لسلامة المجتمع أو من مخلفات المنشآت الصناعية، التى رغم تهربها من تكاليف التعامل السليم معها، تظل عاجزة عن التنافس فى الأسواق الخارجية، وتصرخ مطالبة بدعمها وحماية السوق المحلية. وتسأل عن مؤسسة السوق التى يقال إنها الساحة التى يتبارى فيها الجميع ليبقى فيها الأكفاء، فإذا بك فى غابة من الوسطاء، الذين يشكلون شبكة تعمل لحساب من هم مسئولون عن ضبط حركتها.

ويفتح هذا أبواب الفساد على مصراعيه، وهو الوحيد الذى تعلو المهارات فيه خارج مؤسسات التعليم. بل إنه غزا هذه المؤسسات فأحالها إلى مرتع لمن يتفننون فى تسويق الدروس الخصوصية.

وحينما يتحول الأفراد إلى مؤسسات تتراجع سطوة القانون، وهو ما يدفع إلى ظهور مؤسسة جديدة تحت اسم مسئولى الأمن، بدءا من الحراس الخصوصيين للذين يريدون حماية لأشخاصهم من آخرين يرونهم غير مرغوب اقترابهم منهم، وانتهاء بالبلطجية الذين كانت مهمتهم منذ قرن حماية أحياء مقابل إتاوات، فإذا بهم يؤدون عمليات مشبوهة تصل إلى حد الاعتداء بالضرب أو حتى القتل.

وتتحول الحماية إلى أسوار عالية يقف على أبوابها حراس أشداء لمنع المتطفلين من الاطلاع على دخائل حياة من استطاعوا إلى المال سبيلا. وقد كان الفاصل بين السادة والعامة فيما مضى شوارع عريضة أو ربما نهر النيل، فاختفى السادة وحلت محلهم فئة منبتة الصلة بالمجتمع تنشئ مؤسستها السكنية، وانضم إلى العامة خريجون لا يجدون ما يقضون فيه فراغ تعطلهم سوى دس الأنف فيما لا يعنيهم.

وهكذا تنشأ مؤسسات سكنية على حساب هدم المؤسسة الأساسية وهى المجتمع. وما لم تشعر فئات المجتمع بقدر من التقارب فى جوانب من أبعاد الحياة، فإن الاستقرار المزعوم لن يكون استقرارا حميدا، ولن يكون أساسا لبناء ما تطالب به جهات داخلية وخارجية من نظام ديمقراطى. إن الديمقراطية المزعومة ليست مجرد مؤسسات وظيفية، بل إنها لن تقوم فى غيبة المؤسسات الهيكلية التى لا وجود لمجتمع يحمل هذا الاسم بدونها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات