القاهرة التى تسكننى - خولة مطر - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة التى تسكننى

نشر فى : الثلاثاء 15 يونيو 2010 - 10:06 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يونيو 2010 - 10:06 ص

 البعض يتصور أن الذاكرة هى الصورة.. هى المرئى أو ربما المسموع... رغم أن للذاكرة حواسها الخمس أيضا. هكذا عدت إلى القاهرة بحواسى الخمس أو بذاكرتها.. تلك التى تعود بعيدا بعيدا. ليست هى تلك الأيام التى قضيتها فى العمل هنا رغم أن لهذه السنوات ذاكرتها أيضا.

ولكن ذاكرة حواسى الخمس، تعود بى إلى البعيد، إلى مصر التى كانت «إلى أيام الطفولة الأولى ثم المراهقة بالأبيض والأسود، هى الذاكرة تتلون بفعل التجربة أو اللمسات الأولى».

عندما حزمت أمتعتى بعد سنين طويلة من الغياب فى بيروت متجهة صوب القاهرة، عادت تلك الذكريات تطاردنى، صورة ومشهد وموقف ورائحة ولمسة و...و...و...، كل الحواس مجتمعة عادت نشيطة لتعيد رسم الذى كان...لوحة تتشكل أمامى رغم تكرار كل الأصدقاء «القاهرة اليوم ليست ما تعرفين، حتى تلك التى تركتيها قبل ما يقرب من الخمسة عشر عاما...» لقد تغيرت القاهرة يا...» هى العبارة التى تكررت على مسمعى وكأنهم جميعا يخشون على من الذاكرة التى أعود بها أن يخدشها الواقع.

وفيما هم يكررون أعيد التأكيد بأننى مدركة ذلك بل ومتيقنة منه وذلك بناء على تجربتى المكررة كلما عدت لزيارة مدينتى التى تسكن بين بحرين فى خليج لم يهدأ موجه أبدا. ففى تلك الزيارات الكثيرة وغير المتباعدة، أجدنى أبحث فى تفاصيل المدينة عن تفصيل كان هنا ورحل. فكيف بالقاهرة إذن؟! وأعيد التأكيد ربما لأطمئن نفسى: ألم تتذكرى كيف كانت بيروت عندما رجعت لها بعد سنين طويلة.. كم سنة هى؟

كانت المرة الأخيرة عند تغطيتى للحرب الأهلية فى لبنان 1985 حينها كانت المخيمات محاصرة من قبل الأخوة ليكملوا ما بدأه الاعداء!! بين 1985 و1996 مرحلة ،بل هى حقبة، قبلها كانت الحرب الأهلية تنهش فى لحم اللبنانيين وعند عودتى كانت بيروت تلملم جراحاتها وتنفض الغبار وترمى بالقذيفة لتعيد للبنان طبيعته ووصفه «بلد الجمال». ورغم ذلك فقد افتقدت بيروتى القديمة.

بيروت والمنامة والمحرق وبغداد ودمشق وصنعاء كلها عواصم كما هى مدن الكون تفقد بعضا منها كلما تجملت كما النساء.

عدت إلى القاهرة. فى طريق المطار الذى هو مدخلى الى ذاكرتى المتعددة، أحسست بنسمة باردة تلسع وجهى فيما أصر على فتح شباك السيارة حتى لا تبقى إحدى حواس ذاكرتى غير مكتملة، عندها قلت لى: ربما قد تغيرت القاهرة ربما!!
لكننى بقيت متشبثة بما كان زمان، أبحث عنه لتطغى الصورة فى حواسى على كل ما استجد، ربما لأننا نحب ما نعرف؟؟ لا بل هى حواس الذاكرة تطاردنا.. أشباح الذاكرة الكلية.

بعد بضعة أيام أدركت أن القاهرة لم تعد هى تلك التى ما زلت أحمل صورة لى ولأفراد أسرتى جالسين على مقاعد فى مدخل برج القاهرة. لكنها ليست المقاهى المستلقية فى حضن النيل وانعكاسات مائه النقى على وجوه الأحبة. فلا الكازينوهات بقيت الحضن الدافئ ولا النيل استمر فى حراسة الأحبة المتناثرين حوله.

القاهرة التى عدت لها لأسكنها ليست هى ما سكنتنى لسنين عمرى الطويلة!! ولكن لا يزال لها نكهتها الخاصة ورونقها وعبق أيامها. لا أريد ولا يريد أحد أن يرى تلوث هوائها وماء نيلها، واكتظاظ شوارعها، ولا الضوضاء التى لا تتوقف حتى ساعات الصباح الأولى، وأخبار الفساد بكل أنواعه بشر ولحم ودواء و...و...و... القاهرة لم تفقد ذاك الجمال الخاص إلا أنها عندما تلونت بألوان العالم المحيط اكتشفنا كم كانت جميلة بأبيضها وأسودها فقط !! كم كان الجمال بأبعاد متعددة. كم أن الخيال الواسع يملأ كل المساحات التى لم تتلون.

القاهرة اليوم، كما كل مصر مع بعض الفوارق التى تميز مدينة عن أخرى وقرية عن قرية ونجع عن نجع، لا تشبه قاهرة تلك الأيام البعيدة عندما كان لكل وصف لها معنى وعبق خاص. فهى المدينة التى لا تنام لأن ليلها يحولها إلى أرض أحلام من الطرب الأصيل والغناء الراقى والموسيقى العذبة الحقيقية بعيدا عن الابتذال والضوضاء التى تسود موسيقى ليلها الآن حيث صخب كثير دون طرب. نهارها الذى كان يحضن الشمس فيدفئ كل من يمر بها ليس بحرارة التلوث بل دفء قلوب أبنائها المفتوحة على مساحات الكون. اليوم تعب المصريون من تعب أيامهم المزدحمة بكل شىء إلا ذاك الجمال والسكون.

يقولون لماذا تريدون العيش فى ماضيها؟ ماضى القاهرة الجميل؟ إذا لم يبق سوى أن نتشبث بالأمل فلم يعد هناك سواه لتبقى الصورة والرائحة فى الذاكرة تغطى أحيانا كل ألوان الحاضر بنقاء الأسود والأبيض، إنه نقاء الوضوح بعيدا عن الرمادية التى تسربت فى خلايا حياتنا اليومية.

نستيقظ على الرمادى، نعمل فى ظل الرمادى، نحب فى ظل الرمادى، ونكره أيضا بنفس اللون، ثم نتطلع الى مستقبل كثيرا ما تطغى عليه الرمادية. ونتساءل بحزن خجول: أين ألوان الكون التى نحاول أن نزين بها أيامنا وليالينا؟ أين الأبيض والأسود وفى حضنهما طعم كل الألوان؟

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات