فى 25 مايو2015، أعيدت محاكمة سقراط فى مدينة أثينا فى بيت الأدب والفنون التابع لمؤسسة أوناسيس. ورغم تعادل أصوات عشرة من كبار القضاة المتميزين فى أوروبا وأمريكا خمسة وخمسة فلم يصدر الحكم بإدانتة. إلا أن الحماسة للفيلسوف كانت أوضح وسط الحضور حيث صوَت 584 لمصلحة براءته و281 لإدانته. يقول المؤرخ الإنجليزى آرثر أرمسترونج (1909–1997) «إن التهم ضد سقراط لم تكن سوى غطاء سياسيا للتمويه على تهم أخرى لم يكن بالإمكان التصريح بها علنا. ومن هنا يمكن اكتشاف عداء السلطات الأثينية القدامى للمثقفين والذين كان يعتبرهم الإنسان العادى بتحريض من السلطة مسئولين عن الكوارث والمصائب التى حلت بالمدينة. إلا أن منهج سقراط فى البحث والتساؤل أظهر مدى فراغ هؤلاء المثقفين فبدأ الاستياء الشعبى من الشخصيات السياسية والثقافية. من هنا اتفق السياسيون والمثقفون على اعتبار سقراط مخربا زنديقا. ووجه القضاء ثلاث تهم لسقراط: إنكار الآلهة والدعوة إلى آلهة جديدة وإفساد الشباب الذى فتن به والتف حوله مأخوذا بسحر حواره».
***
عندما ظهر سقراط 440 ق.م كانت الحضارة الإغريقية أو «الغربية» تمر بفترة هبوط شديد فى كل مناحى الحياة؛ ففى تلك الفترة وقعت الحرب بين «دولة– مدينة» أثينا و«دولة – مدينة» أسبرطة. وقد هزمت أسبرطة أثينا وكانت نتيجة هذه الحرب فترة انهيار للثقافة والآداب والحضارة على وجه العموم، بل كانت فترة شك وخيبة أمل أصابت سكان أثينا وهو ما نعانى منه كمصريين منذ هزيمة 1967 وما تلاها حتى اليوم رغم المحاولات لإزالة آثار هذه الهزيمة.
كانت نتيجة الهزيمة أن الشعب بدأ يسعى نحو «الحقيقة» لماذا سقط عبد الناصر؟ ماذا حدث؟ هل كنا نعيش فى وهم؟ هكذا أثير السؤال فى أثينا كيف نسعى لمعرفة الحقيقة؟ وكان الفلاسفة يتحدثون إلى الناس على أساس أن الحقيقة تتخطى قدرات البشر على اكتشافها لأنهم ربطوا الهزيمة بالغيب والقضاء والقدر، لذلك لم يكن لقيادة أثينا ومثقفيها يدا فيها.
ومع تدهور القدرات العسكرية والاقتصادية مع الإحباط وعدم المعرفة كان التفكك، وهنا اتجه الناس إلى تفكك الثقافة بتبنى التفاهة ومغازلة الشهوات الإنسانية. ومع تنامى هذه الظاهرة حدثت موجة من خيبة الأمل فى عقيدتهم الدينية لأن آلهتهم لم تنصرهم فحدثت موجتان: الأولى موجة تفسير دينى سطحى تافه يرفض الآخر ويركز على الذات والقشور من العبادات والملابس وصراعات مذهبية داخلية، والثانية موجة إلحادية بين الشباب ترفض الدين من الأساس نتيجة هذا الواقع.
واستغلالا للفراغ الناتج عن أخطاء الحضارة الإغريقية اقتحمت الساحة مجموعة من المعلمين المحترفين الذين أصبحوا محوريين أطلق عليهم «السفسطائيين». وهى تسمية مشتقة من الكلمة اليونانية «صوفيا Sophia» وتعنى الحكمة. وكان السفسطائيون يعتبرون أنفسهم حكماء وفى بداية حركتهم كانت مساعيهم تلقى نوعا من التقدير والاهتمام، فقد كانوا معلمين محترفين متجولين ينتقلون من قرية لقرية ومن مدينة لأخرى ليقدموا تعاليمهم ودروسهم. وقد ضرب الفساد هذه الجماعة رغم بداياتهم الصحيحة بسبب ما ضرب البنية الأساسية للمجتمع الأثينى من تفاهة وصراع وفراغ. وهم اليوم نراهم فى بلادنا فى البرامج الدينية والفتاوى والمناظرات بين الأصوليين والمجتهدين والسفسطة الدينية والثقافية والتعليمية.. إلخ.
لقد صار الإعلام السياسى والثقافى والدينى تسوده الفلسفة السفسطائية التى اشتهرت بالقدرة على إثبات النظرية وعكسها. بالإضافة إلى هذه الظاهرة حدثت تغيرات مهمة فى النظام القضائى لأثينا –حينذاك– مع تطور نظام المحلفين الذى يضطلع بالتصويت للحكم على المتهم، وبالتالى ظهرت ثقافة جديدة يحتل فيها «فن الخطابة» مرتبة عالية؛ لأن الأشخاص الأكثر بروزا ووضوحا فى الكلام والأكثر إقناعا هم الذين يستطيعون أن يحركوا مشاعر الشعب وعواطفه وفى ذات الوقت يحركون مشاعر المحلفين فيقنعون أعضاء المحكمة بإصدار الحكم الذى يريدونه.
***
لقد أصبح الإقناع البليغ أهم من المستندات وأصبحت التوجهات السياسية المقنعة فى الخطاب القانونى أو القضائى أهم من الحقائق فى ذاتها. هذا فضلا عن أن السفسطائيين فى تعليمهم وخطاباتهم ودفاعاتهم أمام المحكمة اهتموا بالمسائل النفعية (البراغماتية) فلا يتم تحديد «الحقيقة» على أساس تطابق غيبى أو مطلق (الحق– العدل– الجمال– الخير) بل يتم تحديد الحقيقة على أساس ما تجلبه من الناحية النفعية فى السوق التجارية والسياسية.
لقد كان السفسطائيون أول من عمل بالدعاية والإعلان– إذا جاز التعبير– وكان اختبارهم لفعالية إعلاناتهم ليس مبنيا على أساس المطالبة بالمنتج لأنه حقيقى ومفيد، ولكن مدى فعالية الإعلان فى دفع الناس لشراء المنتج. إذن لم تكن الحقيقة هى التى تهمهم بل كان الإقناع هو هدفهم والأهم أن المدرسة التى طوروها وهى «مدرسة البلاغة» لانزال نحصد حضورها فى ثقافتنا هنا والآن بل ونعرفها بأنها فن الخطابة.
ولعلك تلاحظ –عزيزى القارئ– أن كل من يتحدث أيا كان منصبه أو مستواه يهدف إلى إقناع الجمهور بصحة مبادئه وآرائه، وأن الحكمة التى سادت فى ذلك الوقت ومازالت حية متحركة فى مجتمعنا أن الصالح والصائب يتم تحديده إذا كان يُحسِن عملك الخاص ومصالحك الشخصية، أما الوطن فليذهب إلى الجحيم. إن الحديث عن النسبية يفيد بأنه لا يوجد صالح مطلق أو خطأ مطلق، لكن أنت الذى تحدد ذلك بحسب تصورك الفردى.
هكذا كانت صورة المجتمع الذى بدأ سقراط يتحرك ويتكلم فيه وبدأ حديثه عن «الحقيقة» ينادى إن ما يجرى فى المجتمع إنما يؤدى إلى إهلاك العلم والتعليم وهيبة النظام القضائى والبنية السياسية، وفى قلب كل ذلك الخسارة الكاملة لـ«الفضيلة». ولقد رفض سقراط أن يكون ذلك هو مصير أثينا الحتمى فأخذ يجول داعيا الطلاب والناس عموما إلى حوارات عميقة محاولا إيقاظهم على مسائل أعمق متعلقة بالحقيقة والشئون الجليلة التى تواجه الإنسان فى عصره.
وقد بدأ سقراط يحث الناس على البدء بالاعتراض على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم ثم الشروع الواعى فى فحص أفكارهم ومواقفهم الشخصية وكانت طريقته فى ذلك الحوار عبر المساءلة الدؤوبة «المستمرة». فقد كان يطرح سؤالا ومتى قام واحد من المجموعة بالإجابة يساعده بأسئلة أخرى ليتقدم بفحص ذاتى حر وبمزيد من طرح الأسئلة والإجابات الأكثر عمقا. فلم يقف سقراط فى ساحة المدينة لكى يعظ أو يلقى محاضرات بل كان يبدأ بالقول هل تمانع إن طرحت عليك سؤالا شخصيا؟ ثم يتدخل فى الحوار مع الناس المحيطة.
***
إذن ظن سقراط أنه عبر حث الناس على التفكير سوف يتمكن من نقلهم من مستوى السفسطائى النفعى السطحى إلى مستوى أرفع. لقد كان سقراط يمثل ما يمكن أن نسميه النموذج الأصلى للتعليم؛ فالمعنى الاشتقاقى لكلمة «يُعلِم» تعنى حرفيا «الإخراج من..». فهو كان يُعلِم للإخراج من.. ولكن السؤال، الإخراج من ماذا؟ إنه الإخراج من الجهل.
وقد نُسب إلى سقراط القول إنه «لكى يصبح أحد ما حسن الاطلاع ولكى يكسب فهما للفضيلة ليصبح معلما حقا عليه الاعتراف بالجهل». وبالطبع الاعتراف بالجهل هو أحد الأمور التى يصعب على أى منا الإقرار به خاصة إن كان جاهلا فعلا، لكن سقراط قرر أنه لابد أن يعترف الواحد بجهله ليصبح من الممكن إخراجه مما هو فيه وقيادته إلى اكتساب فهم أعمق.
لقد ردد سقراط أن سلوك الإنسان وتصرفه يتوقف فى المقام الأول على المعرفة الصحيحة، لذلك ركز على ماهية الفضيلة مثل: ما الأمانة؟ ما المثابرة؟ ما العدالة؟ وقد كان يدفع الناس إلى تجاوز فكرة المصالح أو المنافع الشخصية ليتوصلوا إلى فهم أعمق لهذه المفاهيم التى بموجبها تنجح أو تفشل الحياة البشرية أو الفضيلة الإنسانية. فهل ترى عزيزى القارئ أن مصر اليوم فى حاجة إلى سقراط؟