أسد النمل - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسد النمل

نشر فى : الخميس 15 أكتوبر 2009 - 9:21 ص | آخر تحديث : الخميس 15 أكتوبر 2009 - 9:22 ص

 ظل الإعلام يردد هذا الاسم لعدة أيام فى يوليو الماضى، وكان كلما تردد يستدعى إلى ذهنى ذكرى لعبة من ألعاب الطفولة اسمها «امبوكو امبوكو»! ففى طفولتى كان اللعب لا يعنى إلا اللعب فى الشارع، والشارع كان خلاء فسيحا من الأرض الترابية أمام البيوت، وفى هذه الأرض الترابية كنا نبحث عن ثقوب مخروطية دقيقة الصنعة ومكسوة بتراب شديد النعومة، نميل عليها ونبصق فيها ثم نوقّع بأكفنا خبطات منتظمة بجوارها ونحن نُنشِد: «امبوكو امبوكو / اطلع اطلع / ل اضرب أمك / اضرب ابوكو»، وكان امبوكو امبوكو، لدهشتنا، يطلع!

يطلع صغيرا بيضاويا طحينى اللون وأرجله تلعب تلعب. يخرج من تحت التراب مسرعا، خائفا من الغرق! ويصعد ماشيا بظهره فى لهوجه ليغادر الثقب، فنمسك به، نربطه من عنقه الدقيق بخيط، وندلى الخيط فى ثقب جديد، ولا نكون فى هذه الحالة مطالبين بالبصق ولا بالخبط ولا بالنشيد، فبمجرد أن ندلى الحشرة المربوطة فى الثقب حتى تهرول مسرعة إلى الخلف، تغوص بمؤخرتها فى التراب الناعم وتختفى، وما هى إلا لحظة حتى نرى اشتباكا منمنما يدور تحت التراب، فنشد خيطنا لنجد حشرتنا المربوطة وقد جذبت معها حشرة أخرى، تماثلها، وهما مستمرتان فى العراك.

تتكرر اللعبة، وتكثرالحشرات المربوطة فى الخيوط، حتى تكفى لصنع عقود وسوارات كاملة، عندئذ نقصف بأظافرنا الفكوك الدقيقة لنأمن شر اللسع، ثم نرتدى سواراتنا وعقودنا الحية، ونزهو بها متنافسين: من هو بطل اليوم فى صياغة أكبر عُقد أو أغزر سوار!

بعد أن كَبرْت، وكبر ولعى بمعرفة سلوك الحيوان لعلى أحل ألغاز سلوك الإنسان، عرفت أن هذا الامبوكو امبوكو لم يكن غير طور ناقص لحشرة اسمها العلمى «أسد النمل»، تشبه حشرة الرعاش فى طورها الكامل، وتكون غير ضارة مطلقا فى اكتمالها، لكنها فى الطور اليرقى الذى هو «امبوكو امبوكو» تكون مخلوقا متوحشا قميئا يشبه البقة، وأرجلها الست ضعيفة لدرجة أنها تمشى بصعوبة إلى الخلف فقط، ولها ست عيون وليس لها فم ولكن فكوكها المتباعدة المزودة بأشواك حادة تجرى داخلها قنوات تمتص بها غذاءها، تحفر هذه الحشرة فى الأرض حفرة قمعية الشكل ثم تبطنها بالرمل الناعم، وتدفن نفسها فى القاع تاركة فكوكها بارزة ومموهة، وعند مرور نملة بحافة الحفرة تسقط وتنزلق على الرمل الناعم، وإذا ما حاولت الفرار تسرع يرقة «أسد النمل» وترميها بحبات الرمل حتى تسقط فى القاع، فتلتقطها الفكوك وتنغرز فيها الممصات، ولا تلفظها إلا قشرة نملة خاوية!

يرقات حشرة أسد النمل، أو الامبوكو امبوكو، هى طور ناقص، يعوض نقصه العضوى بالصيد الخادع للفرائس الصغيرة، كما أن نقصه يفسِّر تسرّعه فى الاشتباك الضارى حتى لو كان مع نفر من بنى جنسه. فهل كانت حركة «بوكو حرام» الطالبانية النيجيرية المتطرفة، التى ذاع اسمها فى وسائل الإعلام منتصف هذا الصيف، تختلف عن ذلك كله؟

«بوكو حرام»، ومعناها باللغة السواحلية «التعليم حرام»، حركة تبناها «داعية» نيجيرى ضيق الأفق محدود المعرفة اسمه محمد يوسف، حرّم كل أنواع التعليم غير الدينى بدعوى أنها تصرف الشباب الصغير عن علم التوحيد، وكان يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين فى نيجيريا التى تُطبَّق فيها الشريعة على المسلمين فى 12 ولاية كبيرة. وفى أجواء الزحام والفقر والجهل واللعب على الوتر الطائفى المشدود فى نيجيريا، سرعان ما سرت شرارة بوكو حرام مثل النار فى الهشيم، هشيم الصبية والفتيان الفقراء الذين لم تكن المدارس غير خنقة تضاف إلى خنيق واقعهم الرازح تحت فقر حالك لأغلبية تعيش فى الأكواخ بينما ثروات البلاد التى يتوجها النفط تنهبها قلة فاسدة وعميلة لشركات النفط الأجنبية.

فَرِح الأولاد بالهرب من المدارس، وتحت شعار مرضاة الله ورفع راية التوحيد، بدأ الملا محمد يوسف يوجه الأولاد لجهاد عجيب فى الدنيا بوعود جنان الآخرة، وكأنه، شأن دعاة التطرف والتعصب جميعا، وكيل الله فى الأرض، وحائز صكوك تمليك قصور وبساتين الجنة. ولم يكن الخروج لهذا الجهاد غير خبل إجرامى بسلاح هزيل وضعه «الداعية» بين الأيادى الصغيرة، يهاجمون به الكنائس ونقاط الشرطة ويروعون به كل من يختلف أو يبدو مختلفا مع الحركة، وانتهوا إلى مذبحة راح ضحيتها أكثر من ثلاثين ولدا على أطراف الطفولة قادهم مفتى «بوكو حرام»!

إن خطورة كل الحركات المتعصبة والمتطرفة، الداهية منها والمخبولة، أنها حتما تتجه إلى منحى العنف ضد الغير، سواء كان مجتمعا او دولة، وبتسرع يكشف عن تشوُّه فاحش فى جذور تكوين هذه الجماعات والحلقات، فهى بمنطق الاختزال الملازم لفكرها، بسبب الجهل والنقص، أو بضلال الغرور بأنهم أصحاب التدين الحقيقى وغيرهم كفرة، وهذا تعبير أوضح عن الشعور بالنقص، تكون استباحة أرواح الآخرين مبررة، ويكون سفح دماء الأتباع قربانا لجنون عظمة الزعيم. ولقد كانت نهاية زعيم حركة بوكو حرام التكفيرية بائسة كبؤس دعواه ومسعاه..

قُبِض عليه مختبئا بين الأغنام فى حظيرة لأقاربه فى منطقة «مكوى»، وعُرضت جثته على شاشات التليفزيون فيما زعمت الشرطة أنه قُتل خلال تبادل لإطلاق النار. وكان آباء وذوو الضحايا يصبون عليه اللعنات وهم يلملمون أشلاء عيالهم، أما الأولاد الذين نجوا، فقد اعترفوا بأنه قيل لهم إنهم ذاهبون لتلقى درس دينى، وفوجئوا بإقحامهم فى تلك المقتلة. كما استغاثت زوجات محمد يوسف وأتباعه بشيوخ المسلمين هناك، لتطليقهن بعد تحررهن من رحلة معاناة مريرة وممارسات مهينة كن فيها مُختطَفات لا زوجات.

لننتبه لأولادنا وبناتنا، فلسنا بعيدين أبدا عن حالة البؤس واليأس واستشراء الفساد فى نيجيريا، وواقعنا المخنوق يحفل بألف زعيم ناقص من زعماء التعصب والتكفير، حتى فى متن العملية التعليمة المنهكة والركيكة، والتى تجعل من آلاف الأولاد فرائس سهلة لأى بوكو حرام.. وأى ابن حرام!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .