«مهندس البهجة».. «وعي» الكاتب و«لا وعي» السينما - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 7:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مهندس البهجة».. «وعي» الكاتب و«لا وعي» السينما

نشر فى : السبت 17 يونيو 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 17 يونيو 2023 - 9:20 م

هذا الكتاب الصادر عن دار المرايا، بعنوان «مهندس البهجة.. فؤاد المهندس ولا وعى السينما»، لمؤلفه د. وليد الخشاب، يستحق مناقشة متعمقة، بما قدمه من منهج متفرد فى قراءة أفلام أحد أبرز فنانى الكوميديا المصريين والعرب على مرِّ العصور، وبالنتائج التى ترتبت على هذا المنهج التفكيكى التأويلى فى قراءة تلك الأفلام.
إنه من أكثر الكتب التى تحاورتُ معها على الورق، فبحجم تقديرى الكبير للجهد العظيم فى اكتشاف عالم فؤاد المهندس، ولتقديم أفكار مدهشة ولامعة، فقد كتبت ملاحظات كثيرة على الهوامش، اتفاقا واختلافا.
ولا شك أن كتابًا يحفز على الحوار والجدل، يجعله مستحقا للقراءة، ويجعلنى شديد التقدير لمؤلفه، رغم الخلاف والاختلاف.
أتفق بداية مع المؤلف فى اعتبار الكوميديا مسألة جادة، فالأعمال الكوميدية ليست مجرد تهريج وتسلية، بل هى أعمال حافلة بالدلالات الثقافية والاجتماعية والسياسية، تماما مثل الأعمال غير الكوميدية.
أتفق ثانيا على أهمية ذلك المنهج الذى يضع الفيلم فى سياقه التاريخى والسياسى والثقافى، من دون تجاهل القراءة الفنية والجمالية، فالفيلم منتج جمالى، ولكنه ليس معلّقًا فى الفراغ، وهو ينتج فى زمن بعينه، ولجمهور بعينه، رغم أنه عمل عابر لكل الأجيال اللاحقة.
وأتفق بالتأكيد حول عظمة وعبقرية فؤاد المهندس، أعتقد أنه قد أخذ حظه من الشهرة والحب والنجاح، ولكن أعماله السينمائية بالتحديد، لم تأخذ حظها من التحليل، وبالذات أفلامه بعد هزيمة 1967، وهى أعمال فائقة الخفة والبساطة والتسلية، ولكنها ليست بدون معنى أو دلالة.
أتفق كذلك فى أهمية التفكيك، وفى استخدام منهج التحليل النفسى فى قراءة الأعمال الفنية، ولكن مع كثيرٍ من الضوابط، وأتفق كذلك مع فكرة التأويل، ولكن بحدود ما يحتمله العمل الفنى.
من الاتفاق الأخير ينبع اختلافى مع تطبيق المنهج، فقد بدا الأمر فى تحليلات كثيرة كما لو أن القراءة انعكاس لوعى الناقد مؤلف الكتاب، وهو وعى باذخ، مصقول، ورفيع المستوى، وليست انعكاسًا لمصطلح «لا وعى السينما»، الذى يهتم بتحليل علامات ورموز وفلتات، غير مقصودة غالبًا، فى أعمال فؤاد المهندس السينمائية.
لقد أخذنا الوعى السياسى والاجتماعى بالمرحلة الناصرية إلى آفاق قد لا تحتملها القراءة الدرامية، فتحوّل «لا وعى السينما» أحيانًا إلى لافتة وضعت تحتها خلاصة «وعى الناقد» بالمرحلة، وصارت هناك قوة خارقة لهذا «اللا وعى» السينمائى، حتى افترض المؤلف أنه قادر على «التنبؤ» بما وقع بعد ذلك!.
كنموذج لإصابة الهدف فى قراءة «لا وعى» الأعمال الفنية، أتفق تمامًا مثلًا مع تحليل صورة الأب الهزلية فى مسرحية مثل «مدرسة المشاغبين»، وأضيف عليها تكرار صورة الأب الهزلية فى أهم مسرحيات السبعينيات مثل: «موسيكا فى الحى الشرقى» و«العيال كبرت» و«إنها حقا عائلة محترمة».
هنا ربط منطقى بين اهتزاز صورة عبدالناصر بعد هزيمة 67، وصورة الأب المهتزة فى تلك المسرحيات.
ولكن التوسع فى التأويل حول لا وعى السينما، وما يغرى به من نتائج طريفة، انتهى إلى نتائج ترجح التفسير السياسى والاجتماعى، على حساب القراءة الدرامية المحتملة، إلى درجةٍ ظننت فيها أنه من الممكن إسقاط أى دلالة سياسية، على أى شىء، فى أى فيلم، وفى أى زمن.
خذ مثلًا افتراض توازى أفلام القرين أو الشبيه، التى لعبها فؤاد المهندس، مع ازدواجية خطابات النظام الناصرى، وازدواجية الحكم بين ناصر وعامر. هذه نتيجة طريفة جدًّا، ولكن ماذا نفعل فى صورة القرين فى فيلم مثل «سى عمر»، أو فيلم مثل «المليونير»؟
هل نبحث «من خارج الفيلمين» عن معنى ما فنسقطه على صورة القرين فيهما لتفسير دلالة سياسية مفترضة؟
وخذ مثلًا مسألة غلبة الحبكة البوليسية وسينما الجريمة على بعض أفلام المهندس، واستنتاج دلالة ما من ذلك، وهى الشعور بوجود جريمة بعد الهزيمة، وعدم الاستدلال على مرتكبها.
هنا أيضًا تأويل طريف، ولكنه قادم مباشرة من قصة «الجريمة» لنجيب محفوظ، ولا يرتبط بدلالة النوع فى سينما المهندس، وإلا كيف نفسر مسلسل «عيون» بحبكته البوليسية النفسية، والذى عرض بعد إزالة آثار جريمة 1967 بسنوات طويلة؟
وبالمناسبة، فإن ربط «لا وعى الأفلام» بفؤاد المهندس غير دقيق، لأنه لم يكن مؤلف أعماله، مثل شابلن والريحانى، والأجدر بالدراسة حول لا وعى هذه الأفلام هو اتجاهات وأفكار مؤلفيها، مثل بهجت قمر، وعبدالمنعم مدبولى، وأنور عبدالله.
يستمر الوعى السياسى مسيطرًا وغالبًا على الجمالى والدرامى فى مناطق كثيرة من الكتاب: فالعبط والاستعباط، يتحولان إلى دلالة لوصف بديل الأب فى «إنت اللى قتلت بابايا»، بينما هما مجرد أدوات للإضحاك عند المهندس، بل إن العبط والاستعباط، والسخرية من رجال الشرطة، أدوات شائعة أيضًا فى أعمال شابلن.
لا أظن أيضًا أن هناك تناقضًا بين «تمصير» المهندس لأعمال أجنبية، وبين كونه رمزًا لكوميديا وطنية، فهكذا فعل الريحانى، وشابلن الذى قدم أفلامًا أمريكية، صارت جزءًا من الكوميديا الهوليوودية، لم يكن سوى مهاجر أجنبى بريطانيا بائس.
تتغلب الرؤية السياسية، فيصبح الثنائى شويكار والمهندس «أكبر ثنائى» مرّر خطابات الدعاية الناصرية بشأن الهوية الوطنية، وممارسات الحداثة الاجتماعية، فماذا إذن عن أفلام الثنائى شادية وصلاح ذو الفقار؟ وما الذى كان يمكن لهذه الأسماء أن تفعله سوى أن تقدم الطبقة الوسطى التى جاءت منها؟ هل يمكن أن نتخيل شويكار والمهندس كفلاحين مثلًا؟
لم تكن إذن «أيديولوجية الفودفيل»، ولكنها إمكانيات الممثل والظرف، وتقديم الواقع دراميا بشكلٍ عادى، مما ينطبق على حشد من أفلام المرحلة، وليس على أعمال المهندس وحده.
لا يمنعنى اختلافى من تحية الجهد العظيم للمؤلف، ولكن الاتفاق على عدم تفاهة أفلام المهندس، لا يمكن أن يكون بديله تحويلها إلى «مانيفستو» لأحوال الوطن السياسية والاجتماعية والثقافية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات