«أطلس الخفاء».. حياة موازية وجغرافيا بديلة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أطلس الخفاء».. حياة موازية وجغرافيا بديلة

نشر فى : السبت 19 مارس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 19 مارس 2022 - 7:25 م

يمنح هذا النص البديع قارئه حياتين ورحلتين، واحدة تترجم واقعًا عاديًّا، والثانية تعبِّر عن عالمٍ خارق، الأولى هى جغرافيا المشهود المحسوس، والثانية هى دنيا الباطن والخفى، وجغرافيا الروح الباحثة عن الخلاص، وبين العالمين تتبلور شخصية تمتلك خصوصية تجربتها، بقدر ما تعبِّر عن مأزق الوجود الفارغ، الذى يحتاج إلى معنى، يكمل الحكاية، ويواسى المتعبين.
رواية قصيرة بعنوان «أطلس الخفاء» صدرت عن دار الشروق، تمتلئ بالعالمين معًا، تراوح مؤلفة الرواية منصورة عز الدين بينهما، وكأنها تحقق توازنًا لا تجود به حياة عادية لشخص يعيش على الهامش، ولكنه يمتلك قدرة على كتابة إشراقاته، واستبصاراته الموازية، يسجلها فى دفترٍ قديم رمادى، ذلك اللون الذى يليق بمنطقة غامضة وملتبسة، لعل الدفتر القديم يليق أيضًا بكتابة جغرافيا بديلة، تسبق خرائط اليوم، إنه العالم فى صورته البسيطة المجردة، حيث الماء والأرض والحجر والحصى، وحيث النخيل والحلفا والكروم، وحيث لا لغة ولا صوت إلا فيما ندَر، تظهر شخصيات عرفها «مراد» بطل النص الوحيد، ولكن فى هيئة وبمعنى آخر، ومراد نفسه يمتلك وجوده الخاص، وبقوانين تفارق قوانين حياته المحدودة.
بناء الرواية كله يحقق هذا التوازى بين حياة مراد موظف الأرشيف الوحيد، الذى لم يعد موظفًا بعد الوصول إلى سن المعاش، بل وتجاوز هذا السن، وبين دفتر الإشراقات الذى تفرغ لكتابته، وبينما تبدو حياة مراد الواقعية كسرد خبرى عنه، فإن إشراقاته المكتوبة تبدو مثل لوحاتٍ مرسومة بضمير المتكلم، إنه يعوِّض غيابه ويسترده كاملًا، فتظهر لغته العربية القوية، التى تليق بحافظٍ للقرآن، والتى تليق برجلٍ عمل مصححًا لغويًّا، اللغة تناسب أيضًا عالم الباطن، مكثفة وواضحة الإيقاع، مصوّرة وكأنها تصف لوحة مرسومة فعلًا، ومثل الأطلس المعروف، تبدو ملونة وحافلة بالخطوط والعلامات، ولكنها أقصر من سرد الواقع، هى فى جوهرها أوراق مسروقة من العالم الظاهر، واستراحة خاطفة لروحٍ متعبة.
لكن لوحات الأطلس ليست مفارقة تمامًا لعالم الواقع، الجدة خديجة مثلًا تظهر فى الإشراقات، وكذلك ليلى، أخت مراد، وحبيبته وردة التى تركها، فأورثته شعورًا عارمًا بالذنب والأسى، شوارع الواقع حاضرة أيضًا، ونباتاته وأشجاره، بيت القرية، ودار المحبوبة، اللوحات ليست رموزًا صوفية خالصة، ومغلقة وملغزة، ولكنها أقرب إلى تجلياتٍ تشبه الأحلام الهائمة، إنها صوت الروح التى تريد أن تغير قانون واقع خذلها، ولكنها متعلقة به، وبشخوصه، وبأحزانه، وبمباهجه الصغيرة، بطعامه وشرابه، بالطعمية الساخنة، وبسندويتشات البيض بالليمون المخلل، وبلحظات الحب الضائعة.
هذا ما يجعل لوحات الأطلس المعنونة حميمية وقريبة، وهذا ما يجعل تضفير الواقع بالتجليات سلسًا ومتوازنًا، بل لعل اللوحات ترد على أسئلة الواقع الصعبة، تمنح مراد والقارئ معًا أملًا قويًّا، وتذكرنا بأن الحياة الضيقة الرتيبة قد تكون مدخلًا لعالمٍ متسع داخل مراد نفسه، الذى يمثِّل ذاته، وتفاصيل شخصية محددة، ولكنه يترجم كذلك فكرة الإنسان كجرم صغير، انطوى بداخله العالم الأكبر، الإنسان كظاهر عابر، وكباطن مقيم، الإنسان كعقل عملى، وعاطفة متقلبة، والإنسان كروح منطلقة تصنع قانونها وحدودها.
يمكن أن تقرأ النص فى حدود شخصيته بكل بساطتها وخصوصيتها، ولكنه يبدو لى أيضًا كنص مفتوح ومتعاطف مع الإنسان عمومًا، وليس مع بطله فقط، يتضح ذلك حتى فى الشخصيات الأخرى المنعكسة على حياة مراد، والحاضرة فى لوحات الأطلس، لا تملك حقًّا سوى التعاطف الجدة خديجة، محفّظة القرآن، وعنوان الحكمة، وخديجة العجوز التى تعانى من الخرف والتى صارت كومة من العظم.
تتعاطف مع وردة الجميلة التى تقاوم فقرها، وتحلم بأن تتعلم، وتتعاطف مع ليلى الأخت الباحثة عن سعادتها، حتى لو اقتضى الأمر أن تهرب مع من تحب، تتعاطف أيضًا مع شخصية جبريل عدو المرأة، الذى يبدو كذاتٍ جاهلة ومضطربة، لا تعرف كيفية التعبير عن نفسها، وتتعاطف بالتأكيد مع مراد فى كل أطواره، فى حياةٍ عابرة لم يعشها فى الواقع، وفى حياة موازية مثل «البلاد المحجوبة»، بتعبير جبران خليل جبران.
يمتد التعاطف إلى أحوال بشر الخريطة، إلى المدن الغامضة تحت الماء، وإلى القوارب المتأرجحة بالناجين من الطوفان، إلى صورٍ تبدو فاتنة مثل جنات كاملة، سرعان ما تتغير أحوالها فى لحظات، فالشيء الوحيد الثابت فى تلك اللوحات هو التغير، لا شيء تستطيع الإمساك به، وليست عملية كتابة مراد لتلك اللوحات التى عاينها سوى محاولة لجعلها حية وباقية، محاولة لجعلها جزءًا من الذاكرة التى يمكن الإمساك بها، وليست أوهام مراد بتجول شخصيات اللوحات فى شقته، أو اكتساحها لحياته اليومية، إلا تعبيرًا عن رغبة فى حضور عينى مستمر ومشهود.
تتسق الرحلتان فى تعبيرهما عن الوجود الإنسانى واقعًا ومجازًا وخيالًا، فى رفض الواقعى كخيار محدود، الإنسان أهم من ذلك، ويستحق عالما موازيًا وبديلًا، يستحق أن يتحرر من شقته ووظيفته وأخطائه ونقائصه، يستأهل مراد، حاطب الليل، الذى لا يعرف أنه يجمع الأفعى وسط أكوام الحطب، أن يخلق معجزته الخاصة، وقد قالت له الجدة خديجة: «المعجزات تحدث فقط لمن يؤمن بها».
لا تجيب رواية «أطلس الخفاء» عن الأسئلة، ولكنها تضعها فى برواز، تجعل منها لوحة شاملة للمرئى وللمحسوس، تعطى فرصة ملحق إضافى فى امتحان الحياة الصعبة، وتوظف الخيال لصالح النفوس المعذبة.
لا تخترع هذا العالم، ولكن تنبهنا إلى وجوده داخل الروح، وفى أعمق أجزائها، نقطة نور، أو ربما نور غامر، فى نهاية نفق طويل وشاق.
تستوعب الرؤية الواسعة من نجا بالغرق، ومن نجا بالطوفان، من تخلى عن المحبوب، ومن هرب معه، وتطلق بطلها حُرًّا بعد تعميده بنار الوحدة.
لعلها أخيرًا صورة مكبرة للفرد فى مواجهة ذاته والعالم، يجتازها فوق الأشواك وقطع الزجاج، طلبًا لفردوس مفقود قديم، ولرائحة مستعادة تستحق التعب، مثل غمامة من شذا الليمون.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات