درب المهابيل - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درب المهابيل

نشر فى : الثلاثاء 20 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 20 أغسطس 2013 - 8:00 ص

ما من مرة أشاهد فيها هذا الفيلم إلا وأجد فيه شيئا ثمينا لم ألحظه من قبل. إنه، كالمنجم كلما توغلت فيه، كشف لك عن خيوط الذهب بداخله.. شاهدت الفيلم صبيا، فى سينما «شبرا بالاس» التى تحولت إلى محلات تجارية. حينها، بدا العمل صادما، مزعجا ومؤثرا، فهو يخلو من المناظر الجميلة التى عودتنا الشاشة عليها. لا فيللات، ولا حديقة، ولا سيارة، ولا ثريات مضيئة فى صالات واسعة، ولا أصحاب ياقات بيضاء أو نساء يتدثرن بمعاطف من الفرو، ولا صراع بين امرأتين من أجل رجل، أو صراع رجلين من أجل امرأة.. وهذه كلها من مفردات السينما المصرية السائدة فى تلك الأفلام. «درب المهابيل»، يدور فى زقاق ضيق، نماذجه البشرية أقرب إلى القاع: عجلاتى بخيل ــ حسن البارودى، يقهر العامل عنده، واسمه طه ــ شكرى سرحان. ابن البخيل ــ توفيق الدقن ــ يكره والده.. طه يحب خديجة ــ بدايات ظهور برلنتى عبدالحميد ــ ويشترى ورقة يانصيب، يمنحها لخطيبته، لكن والدها، الورع، يجبرها على القائها فى الطريق ليلتقطها المجذوب «قفة» ــ عبدالغنى قمر ــ وحين يعلن عن فوز الورقة بمبلغ ألف جنيه ينقلب الدرب رأسا على عقب، فكل واحد، وواحدة، يرى أنه الأحق بالمال الذى لا يمكن ان يذهب لمجذوب. تندلع صراعات، ومؤامرات، تنتهى بتحطيم عشة «قفة» المبنية من الصفيح، ووفاة العجلاتى البخيل، وابنه، وعودة «قفة» ملفوف الرأس بالشاش وقد خبأ المال بين طيات خيش عنزته.. وأثناء نومه، تتساقط العملات الورقية لتلتهمها الماعز، ويستيقظ الدرب على صباح جديد، وتنتهى القصة التى دارت وقائعها خلال دورة شمسية واحدة.

مشاهد من الفيلم المزعج ظلت زاهرة فى الذاكرة، منها صرخات توفيق الدقن المفعمة بالغضب والرجاء والتهديد، حين يردد «الفلوس فين يا قفة».. وانعكاس وجه برلنتى عبدالحميد الصبوح، المصرى، على مرآة السرير المزمع شراؤه لشهر العسل.

بعد سنوات، شاهدت الفيلم مرة ثانية، فى سينما «نادية» بالنعام، قبل ان تتحول إلى مخزن لشركة بيع المصنوعات ــ أين الشركة الآن؟ ــ وتنبهت إلى ذلك الاهتمام بالشخصيات الثانوية، على نحو يكسبها حضورا قويا وعميقا، فوالد خديجة الورع «عبدالعزيز» يبدى الندم لأنه أجبر ابنته على التخلص من ورقة اليانصيب. وبائع الأثاث القديم «عبدالغنى النجدى» يتحمس للقبض على شكرى سرحان، بعد ان دفع الأخير عدة أقساط من ثمن السرير الذى لم يتسلمه بعد.. وفتاة الليل «نادية السبع»، العليلة، يهاجمها الرجال علنا، ويتقربون لها سرا.. انه السيناريو القوى، المتفهم، المحكم، لعبة توفيق صالح وعمنا الكبير، نجيب محفوظ، صاحب القصة.

تحت الكبارى، تدفقت مياه كثيرة، تتابعت مشاهدة مئات الأفلام، لكن بقى لـ«درب المهابيل» حضوره الخاص، تجلى ليلة عرضه فى برنامج «ذاكرة السينما» الذى يعده، بفهم ودراية، الناقد على أبوشادى، وتقدمه المذيعة المرموقة، سلمى الشماع، وتستضيف فيه كبار السينمائيين، وليلتها، كانت بمثابة اكتشاف جديد لعروق الذهب فى المنجم، ابتداء من الأداء التمثيلى المختلف، المبتعد عن المغالاة والافتعال والتصنع، المقترب من الصدق والاقتصاد والتوازن بين العقل والعاطفة، إلى مغزى الفيلم الجدير بالالتفات، وهو أن الثروة لا تأتى إلا عن طريق العمل، ولا يمكن ان تتحقق بضربة حظ.

«درب المهابيل»، الذى غاب عنا صاحبه، الأستاذ والصديق الغالى، توفيق صالح، يطل علينا من منتصف القرن الماضى «1955»، لينبهنا إلى مغبة اللهاث وراء المنح والعطايا، التى أضاعت عاما من حياتنا، ولاتزال، فالمال الذى يأتى من دون عرق شريف، بالتأكيد، سيذهب سدى، ولن يخلف إلا مأساة. إنه فيلم عن الحاضر.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات