ظروف مُعْوَجَّة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 9:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ظروف مُعْوَجَّة

نشر فى : الخميس 20 سبتمبر 2012 - 8:35 ص | آخر تحديث : الخميس 20 سبتمبر 2012 - 8:35 ص

طوال أسبوع كامل بعد وصولى إلى تلك المدينة الأوروبية مكثت أبحث عن ظروف بريد مضبوطة الصُنع لأودع فيها رسائلى إلى الأهل والأحباب فى مصر، وبرغم مرورى على معظم متاجر الأدوات المكتبية الفاخرة فى المدينة، فشلت فى العثور على ظرف واحد ليس معوجا، ولم أكتشف سر هذه الاعوجاج إلا بعد التحاقى بالقسم الجامعى بمستشفى الأمراض العقلية الأكبر بهذه المدينة، فقد اصطحبنى أحد الأساتذة لتعريفى بمكونات المستشفى التى تتسنم مساحة شاسعة فوق أحد تلال المدينة السبعة، وفى قاعة هائلة وجدت مئات المرضى فى ثياب المستشفى يتحلقون عشرات صفوف الطاولات وأمامهم أكداس من الظروف المقصوصة وغير المطوية، يلتقطونها شاردين أو ذاهلين أو هاذين، ويقومون بتصميغ حوافها ثم طيها ورصها فى رزم داخل صناديق أمامهم، بآلية وكأن أياديهم تعمل وحدها، وكان ذلك أحد أقسام العلاج بالعمل للمرضى المزمنين من نزلاء المستشفى، وعرفت أن مُعظم ظروف البريد التى تُباع فى المدينة تخرج من هذه القاعة. وصرت أفضل تلك الظروف المعوجة على غيرها إن وُجِدَتْ، ليس فقط لأن وراءها قصة، بل أيضا لأن فى قلبها قيمة.

 

فى مأثورنا الدارج نقول «الإيد البطالة نجسة»، وهى كذلك لأنها خطرة، وأخطارها يمكن أن تذهب بعيدا فى الإثم دون وعى منها ولا إرادة حقيقية، وأعتقد أن أخطر ما يواجهنا وسيواجهنا هو التحريك السىء لملايين هذه الأيادى العاطلة، ولعل هذا هو بعض ما لمحته فى متابعة عرض الفيلمين الهابطين اللذين شغلا أمتنا هذا الأسبوع، فيلم الإساءة المنحط، وفيلم ردود الأفعال الهابطة عليه، والتى تجاوزت الحق الأخلاقى فى نصرة نبى الأمة، إلى هوجة غوغائية بدأت بالشحن المتعصب من جماعات العنف الكامنة، ثم امتدت لتحريك أيادى البَطالة العمياء فى اتجاه المزيد من العماء.

 

الفيلم التافه والمقرف أيا كانت الأدوات التى نفذته، لا أشك لحظة أنه صنيعة صهيونية عنوانها إهانة رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، لكن غايتها إهاجة العوام وأشباه العوام، وإشعال فتنة طائفية تلتهم طاقتنا وتحصد الأرواح، وتكرِّس للانطباع السلبى عن شعوبنا فى العالم، والأخطر هو دفع التطرف والتعصب باتجاه تمزيق بلدان المنطقة بالهمجيات الطائفية والمذهبية، ليُنفِّذ فيها المتعصبون بوعى شقى أو بلا وعى، شقى أيضا، مخطط التقسيم الثانى لمنطقتنا بعد سايكس بيكو، والذى رسمه الصهيونى البريطانى المتأمرك برنارد لويس واعتمده المحافظون الجدد على زمن بوش الصغير لتمزيق نسيج المنطقة، وضمان استمرار الدولة الصهيونية متفوقة استراتيجيا وسط محيط من شراذم دويلات طائفية ومذهبية متناحرة ومُنهَكة، ومن ثم متخلفة ومهزومة سلفا.

 

لقد رأينا نماذج المتظاهرين فى محيط السفارة الأمريكية لدينا، بعد أن شحنتهم دعوات زاعقة التعصب والتطرف ثم خلت بهم وانسلت بعد أن اتخذت الأحداث اتجاها سياسيا خطِرا على بعض من حشدوا للتظاهر، وعواقب وخيمة تُحمِّل رافعى الأعلام السوداء أكثر مما تحتمله أقليتهم فى اللحظة الراهنة، ولم يبق فى الساحة غير بؤساء الحشد يواجهون بؤساء عساكر الأمن المركزى ومعهم ضباطهم الحائرين أمام الالتياث الذى يواجهونه، ولو تأملنا سِحن وخطاب بعض من رصدتهم التليفزيونات فى المعمعة، لاكتشفنا فظاعة المهزلة وانحطاط الفخ، فقد رأينا وجوهها بائسة ممصوصة وهى تطالب منفعلة بـ«كطع العلاكات مع أمريكا فَوْرَم»، وهؤلاء ليسوا جناة بل مجنى عليهم مرتين، مرة بتأثير البطالة السافرة أو المُقنَعة ومرة باستغلال الضائعين جرَاء البطالة.

 

لماذا انحرف واجب نصرة الرسول الكريم إلى هذا العرض الغوغائى، الذى استغلته جماعات العنف لترفع فوق الرءوس أعلامها السوداء، واهتبلته بعض جماعات الفوضى والانتهازية السياسية فرصة لإثبات الوجود. فكان عرضا للكذب على رسول الله أكثر من كونه استنفارا لنصرته، وليسأل كلٌ نفْسَه أمام الله: هل كان خروجك بزعم نصرة الرسول خالصا لوجه الله وحبا فى رسوله، أم به شىء من الاستثمار السياسى، أو إثبات الوجود التنظيمى، أو تفريغ طاقة البغض لأسباب بعيدة عن هذه النُصرة؟ وقد رأينا فى قلب المشهد الغوغائى والطافح بالعدوانية الخطرة على مصر أكثر مما على أى كيان آخر، سيارة ملاكى يقودها شاب ملتح بميكروفون أوقفها وسط الهوجة وراح يجعر «سنحرق كتبهم المقدسة كما يحرقون كتبنا المقدسة. وسنفعل هذا فى عُقر دارهم»، ثم تناول الميكروفون منه الرجل ذو اللحية البيضاء والكلمات السود عن حرق الإنجيل وما هو أبشع وأدنأ من الحرق، عندئذ اقتحمت المشهد سيدة مسلمة محجبة بادية الاحترام وبالغة الشجاعة، صارخة فى صاحبى الميكروفون «حرام عليكم. أنتم بتعملوا فتنة فى البلد. ودم اللى هايموتوا فى رقبتكم» وتعالت الصيحات تحاول إسكاتها، ووحدها هذه السيدة المصرية الشجاعة واجهتهم «مش ها اسكت. مش هااسكت»، لكن ضوضاء الغوغاء والمتشنجين ابتلعت صيحتها الشريفة، وإن ظلت أصداؤها تتردد فى وجدان كل من ألقى السمع بقلب سليم. فلا ينبغى أن نسكت على اختطاف هؤلاء للأمة بعلو صوتهم، واندفاعاتهم العدوانية، وأعلامهم السوداء التى تؤمم بالعافية كل رؤوس الماشين تحتها، فهذه هى الجريمة الأخطر فى حق مصر وإسلامها الوسطى المتسامح، ونبينا الكريم الذى هو قطعا ليس بشتام ولا لعان ولا داعية تدمير ولا قتل لأى نفس بغير نفس.

 

يبقى أنه لا نجاة من هذه الجوائح الغوغائية العدوانية السوداء، إلا بتجريم التحريض على الفتنة والإساءة إلى الأديان من أى صوب جاءا، وبموازاة ذلك، بل أهم من ذلك، تطهير الأيادى من البطالة، فالبطالة نَجَسٌ بما تودى إليه من تهلكة وعدمية وضياع وجنوح للعنف وتعويض للشعور بالضعة فى الانسياق وراء أصوات التعصب متشنجة الخطاب، وليس أصل الذنب فى هذه الأيادى، بل هو فى المجتمع الذى يحرمها مما خلقها الله له من إعمار للأرض وإحسان فى الخير.

 

لقد وجدت فى تلك الظروف المعوجة فى ذلك البلد البعيد رسالة صحة وسواء مقنعة، فمن تجربتى الحياتية لم أر أو أسمع فى ورش العمل بالمستشفى التى ذكرتها حالة عدوان واحدة، برغم توافر الكثير من أدوات العدوان فى هذه الورش، والأظهر من ذلك ما تعرفت عليه فى عديد من السجون المصرية، فلم أرصد بين سجناء الأشغال فى ورشها ومزارعها ما يُعتَّد به من حالات اعتداء وعنف، برغم تكاثر المقصات والسكاكين والفئوس فى هذه الأنشطة، بينما عاصرت فى فترة عملى بمستشفيين عقليين كبيرين فى مصر، لم تكن بهما برامج علاج بالعمل آنذاك، حادثة تهشيم نزيل لرأس زميل له بغطاء سيفون عتيق من الحديد الزهر دون أن يكون بينهما أية ضغينة لمجرد أن الجانى أراد أن يختبر أثر وقوع الثقل الحديدى الذى أَحسَه بين يديه على رأس إنسان، أى إنسان! كما عاصرت حادثة أخرى قطع فيها مريض بأسنانة جزءا من لحم مريض آخر بدعوى أنه «بص لى بصة وحشة». وهاتان الحادثتان لا أُعْزِيهما للجنون بشكل أساسى، بل للبطالة فى ظل الجنون. وهو ما ينطبق أيضا على «العاقلين» من العاطلين، والذين لا أراهم عاقلين تماما، فالبطالة بشؤمها وأذاها قادرة أن تحدث فى ضحاياها تشوهات نفسية لا تبتعد كثيرا عن الجنون.

 

إن أفدح ما كشفت عنه شهور الفوضى الأخيرة التى تطاولت لأكثر من عام ولا تزال، هو هذا الكم من المتعطلين وأشباه المتعطلين فى بلادنا، ومنهم تتخرج أفواج البلطجيية والصُيع والمتحرشين ومراهقى الشوارع وشباب لعبة الحرب والضرب بلا سبب ولأى سبب. وهذا يستدعى أن تكون هناك رؤية لأولويات التنمية إذا كانت حكومة الدكتور مرسى لديها رؤية للتنمية تقتفى خصوصية حالتنا لا مجرد كلام طيب فى الهواء مُستعار من هنا أو هناك. والأولوية كما توضح المواجع والفواجع لابد أن تكون للمشاريع كثيفة العمالة التى تنقذ ملايين الأيادى الطيبة من لعنات البطالة. بغير ذلك لن يكون لدينا أمن ولا أمان ولا عقل يصون هذا ولا ذاك، بل هوجٌ غوغائىٌ وعدوانىٌ متعصب يلتهم روح مصر، ويمزق نسيج لحمها ولُحمتها، ليرفع على خرائبها راياته السود، ولن يكون الإخوان، بكل خبرتهم فى الدهاء السياسى، بمنجاة من هذا الطوفان الأسود إن تمادت استباحاته بالقول والفعل دون رقيب ولا حسيب.

 

لقد ارتفعت الأصوات عندنا تنادى بتجريم دولى لازدراء الأديان بعد فتنة الفيلم المسىء للرسول، ولن يكون ذلك إلا نوعا من النفاق إذا أمرنا غيرنا بالبر ونسينا أنفسنا، وإننى لأتساءل: أليس من واجب الوقت، وكل وقت، أن يتضمن دستورنا القادم نصا يجرم ازدراء الأديان والتحريض على الفتن الدينية والمذهبية والطائفية عموما؟ وهذا لا يتطلب غير سطر واحد واضح، على سبيل الاقتراح، يقول:

 

«ازدراء الأديان وإهانة المقدسات والتحريض على الفتنة جرائم يعاقب عليها القانون».

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .