جدل الحكاية والمكان - أسامة عرابي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:43 ص القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جدل الحكاية والمكان

نشر فى : الثلاثاء 21 أبريل 2015 - 10:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 21 أبريل 2015 - 10:00 ص

يتيح لنا كتاب «إرث الحكاية» للكاتبة نسمة جويلى (مدربة كتابة إبداعية، تدرس الأدب العربى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتتعلم من الروايات والسفر وحكايات الناس)، الصادر عن دار الشروق 2015 ــ التعرف على تجربة ورؤية فى الأدب والفن، جديرتين بالاهتمام، عبر صوت متفرد، يطرح علينا الكثير من أسئلة الكتابة، ضمن معادلة وجودها، وشرائط تحققها، وطرائق استيلادها المعنى، وكيفية تأسيسها جماليا من خلال دينامياتها الداخلية، وما يمكن أن تفيده من الخبرة الإنسانية الكبيرة.

لذلك كانت «الحكاية» طريقها إلى أرض تجربتها، طامحة إلى اكتشاف أسرار الكون والحياة والحب والموت، مثيرة للخيال والتأمل ومغامرات الجسد والروح، فى إطار مشروع «لتعارفوا» للثقافة والفنون الذى أنشأته «لاستخدام الكتابة والتصوير أداتين للتعريف بالناس وحكاياتهم وأماكنهم وثقافاتهم»على حد تعبيرها. وقد حدثنا الفيلسوف الألمانى «والتر بنيامين» عن حيوية التفكير فى التصوير الفوتوغرافى على أنه «تقنية للاشعور البصرى» الذى يحول العوالم الغامضة فى اللاشعور إلى مشهد، بالإضافة إلى محاولة الإمساك بالزمن الماضى، واسترجاع ذكريات الأشياء والأماكن والأشخاص، حيث ترتبط الذاكرة بالصورة أو تنبثق منها.

كما حدثنا المؤرخ البريطانى الكبير «إيريك هوبزباوم» فى الجزء الأول «عصر الكارثة» من كتابه الأشهر «عصر النهايات القصوى.. وجيز القرن العشرين 1914 ــ 1991«عن القرن العشرين بوصفه» قرن الناس العاديين»، وكيف «غلبت عليه الفنون المصنوعة لهؤلاء الناس وبواسطتهم»، وأن «ثمة آلتين مترابطتين قد جعلتا عالم الرجل العادى واضحا على نحو غير معهود من قبل، وقابلا للتوثيق هما: التحقيق الصحفى، وآلة التصوير».. ومضى يضيف: لم يكن أى منهما جديدا، ولكن كليهما دخل عصر وعى الذات الذهبى بعد عام 1914». ولعلنا نلمس بعضا من تجليات ذلك لدى الكاتبة حين زاوجت الصورة الفوتوغرافية (تصوير: سيف الدين خالد، وأحمد صفى الدين) بالكلمة، أو بين العين والإحساس.. الملاحظة والتشكيل، فقدمت لنا رحلة فنية ممتعة نتملى فيها جمالية الصورة بتقاسمها وأبعادها، داخل نص شعرى.. صوفى مترع بدفء الحياة والانطلاق والحركة، واصطياد اللحظات الخاصة الثرية بالدلالات والحيوية، والتعامل ــ من ثم ــ مع المكان بحسبانه روحا تغذى لدينا الرغبة فى معرفة العالم، واكتناه أسراره.

لهذا أهدت كتابها «إلى الله.. الذى كتب الحكاية.. وإلى أمى.. أول من استمع لحكاياتى»، ثم أردفته بتوطئة تذهب إلى أن «إرث الطريق هو الحكاية..إرث الحكاية هو الحكمة»، فى إشارة إلى ما يسم الحكاية من مزج للواقعى بالحلمى، والتاريخى بالأسطورى، والشفاهى بالمكتوب.

لذا اتخذت من «السفر والحكاية» مرآتين مزدوجتين: واحدة بين الكاتبة ونفسها؛ لمساءلة الذاكرة واللغة بمرجعية المتخيل، والأخرى مواجهة مع المجهول بهاجس الحرية الكامن فى روحها.. وراحت تكتب «من وحى الأماكن»، مضيفة: من وحى رحلتى إلى مصر التى كشفت لى أجزاء منى، ومن مكانى لم أكن أعرفها».. رابطة المكان بالزمن «لأن عام 2013 لم يمر عاديا على مصر.. ولم أمنع نفسى من التأثر بلحظة بعينها». فذهبت إلى القليوبية والإسكندرية والشرقية وسيناء وسيوة ومطروح والمنيا وأسيوط والنوبة، مأخوذة «بفكرة أن نسافر لنعرف بعضنا بعضا»، موضحة: الثورة (ثورة 25 يناير2011) خلفت داخلنا جرأة ورغبة فى الامتداد، وأن نكون واحدا «على حد تعبيرها، بعد أن رفدت الثورة الطريق إليها بأسئلة التغيير، وعلاقة الذات بالمجتمع وبالآخر، وتماسها مع التحديات التى تنهض أمامنا.

غير أن الحكاية لدى «نسمة جويلى» تبدأ فى مكان، وتنتهى فى مكان آخر، وكأنها تبحث عن جذورها التى تربطها بعالمها الواسع، أو تلملم خيوطها التى تعينها على أن تحمل فى داخلها الوعد الذى لا تستطيع العيش من دونه. الأمر الذى حدا بالكاتبة إلى توسل «تقنية الرسائل»، أى صياغة التجربة فى شكل رسائل تخاطب فيها بعضا من شركاء رحلتها أو حكايتها؛ لإذكاء فاعلية الطاقة الإنسانية التى تقاوم الزمن، كما فعلت مع: مروة.. مريم.. مونيكا.. صفى.. هيمن.. سولا.. نوران.. مليكة.. شهريار.. مهند.. أو فى محاولتها استعادة «رواية التكوين» على نحو ما جرى مع «جدو سلامة» عند عودتها إلى بيتها أو نفسها أو هويتها وتاريخها.. منقبة فى كل ذلك عن حكايتها الثاوية فى حنايا جغرافيا الذاكرة الجماعية والخاصة، فى سعيها إلى الاقتراب من هواجس وفضاءات مشحونة بالشغف، وبوميض لا ينطفئ، مستكشفة حقيقة الغياب.

وهنا تطرح الكاتبة سؤاليها التاليين: «كيف لو أن الغريب أتى ليخضع المكان لصورته هو عما ينبغى أن يكون عليه المكان؟ هل الأماكن مثل البشر يا مونيكا.. تخضع وتقاوم؟»، ثم أخذت تجيب: «أتى الغريب أول الأمر مع الاحتلال (الفرنسى والإنجليزى)»، وكلاهما ووجه بمقاومة ورفض. وبذلك يتبدى المكان لديها بوصفه خارطة للزمن، وهوية للمقاومة، وتعزيز التضامن، وتولد إمكانات ذات طابع تحررى، مما يسهم فى شحذ الوعى باللحظة الراهنة، عبر سؤال التاريخ، وتطور الرؤية والمعرفة.

عندئذ.. أدركت «نسمة جويلى» أن «المكان الصغير الذى احتوانى كحضن دافئ، لفظ الغريب الذى أتى ليغيره ويخضعه»، وأن النيل الذى بدا لها فى أسيوط «وكأنه يمشى فى عكس اتجاهه.. كأنه فى سريانه يا مونيكا.. كان يعكس صورة المكان داخله». لذا بدت الكاتبة والمكان لحظتين وجوديتين لحقيقة واحدة، تحمل معنى نابضا، يستشرف حاضرا يجدل الماضى بالمستقبل، من خلال استحضار وبعث وإعادة خلق شىء قائم فى عمق الأزمنة، وفى قرارة كل إنسان، إذ إن هناك علاقة تربط المكان بالحواس بالجسد، تسهم فى إعادة اكتشاف الماضى، والوعى به وبمناحيه، من خلال ما يدعوه «مارسيل بروست» فى روايته «بحثا عن الزمن الضائع» بـ«ذاكرة غريزية فى الأطراف»، قال إنها «تعيش أطول، تماما كما تعيش حيوانات معينة غير عاقلة، ونباتات، أطول من الإنسان»، إذ إن «أرجلنا وأذرعنا مثقلة بذكريات الماضى النائمة».. فهل ذلك ما عنته «نسمة جويلى» بقولها: نخون الماضى يا مريم حين نعتاد الحاضر.. لكن الماضى يتخبأ فينا فقط.. وأجفل يا مريم.. من اللحظة التى يصحو فيها الحنين داخلى.. فأجد نفسى موروطة ما بين زمنين وعدة أماكن.. وأحمل فيها غربتى فى كل الأماكن. بما فيهم مكانى الأول..»؟

إن ذاكرة الماضى، ومشهد الحاضر يطرحان علينا أسئلة الوطن والثقافة والقيم الحاكمة لنظرتنا تجاههما، ومن ثم الوقوف على تجربة جمالية، وممارسات اجتماعية وفكرية، تنتميان إلى جدل الحرية والإبداع. ولعل ذلك ما يبرر خوف «نسمة جويلى» مما صرحت به لصديقها «هيمن» قائلة: «يراودنى دوما خوف أن أفقد ذاكرتى وأنا على سفر.. أخاف أن أصحو فى المكان الغريب فأظن نفسى منه.. فكيف تشعر أنت، وأنت تفتح عينيك كل يوم فى المكان الغريب؟». فهل تخاف من التمزق والاقتلاع وطمس جذورها الحقيقية، أم هو الخوف من انقسام الوعى على ذاته، ومراوحته بين اختيارات وآمال عدة، على نحو لا يمكنها من تحقيق صيرورتها وتحرير روحها؟ لا تقدم الكاتبة هنا أجوبة جاهزة، ولا حلولا توفيقية سعيدة تؤلف بين الماضى والحاضر، بل راحت تفكر بصوت عال يدعونا جميعا إلى تلمس البدايات، ومعاينة الجذور، وتأمل المغامرة الأولى كشرط للعثور على وطننا الحقيقى الراقد فى ثنايا حكايتنا، والتعرف من ثم على بيتنا الأول «اللغة» التى تداعب حنينا غائرا حيال الأرض التى تركناها، لكنه «استيقظ بالسفر» وفق تعبيرها. فهل كان «السفر» رحلة بين الضوء والظلال.. بين الحياة والموت تحثنا على التفكير فى الإنسان كحضور وغياب؟ لا، بل كان السفر بالنسبة إليها «كشفا ورحلة تعلم»، جعلتها تحس طوال الوقت أننا «أغنى بالأماكن والبشر»، موصية صديقتها «سولا» «أن ربى ابنتك على الحكاية لتحبها.. وملكيها أرضك وجذرك.. وأوقفى هذا العالم لتراه»، مضيفة: واخلقى حيزا لخيالك المخبأ فيك ليحيا.. ودعى الحياة تستحضر منك ما يلائمها.. واعلمى أنى أحبك.. مهما اختلف الخيال ما بيننا».

وبذلك يأتى كتاب «إرث الحكاية» لـ«نسمة جويلى» محاولة طموحة لاكتشاف المكان، بوصفه مدى مفتوحا يتحول فيه كل شىء إلى حياة، وإلى صراع لتأكيد هويتنا وتاريخنا الخاص، ويبدو فيه الخيال طاقة مخصبة للمستقبل، وللتواصل الإنسانى، والعودة إلى الجذور «إلى الطفل الدائم، طفل كل الأماكن» بتعبير «أندريه ميكيل»، من خلال سرد غنائى لا ينقصه الشعر.

التعليقات