مراجعات ٢٣ يوليو - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراجعات ٢٣ يوليو

نشر فى : الأحد 22 يوليه 2018 - 10:30 م | آخر تحديث : الأحد 22 يوليه 2018 - 10:30 م

بأى تعريف كلاسيكى للانقلاب العسكرى، فإن «يوليو» الانقلاب الوحيد فى التاريخ المصرى الحديث، تنظيم سرى داخل الجيش ضم وجند وخطط قبل أن يتحرك بغتة ويمسك بمقاليد السلطة، بعد إطاحة النظام الملكى.
وبأى تعريف كلاسيكى للثورة فإن «يوليو»، الثورة الوحيدة بحجم التغييرات الجذرية التى أحدثتها فى بنية المجتمع الطبقية وطبيعة التوجهات الاستراتيجية التى تبنتها وغيرت بها معادلات القوة والنفوذ فى العالم الثالث.
كان عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين»، أول من أطلق وصف الثورة على (٢٣) يوليو، بعدما كانت تسمى فى بداياتها بـ«الحركة المباركة».
استدعاء الصفات من احتياجات مجتمعاتها.. وقد كانت مصر بحاجة ماسة إلى التغيير الجذرى فى بنية العلاقات الاجتماعية والتوجهات الاستراتيجية، حتى يمكنها تحقيق طلبيها الكبيرين فى جلاء قوات الاحتلال البريطانية، ورفع المظالم الاجتماعية عن أغلبية شعبها.
ككل الثورات المصرية الأخرى جرى إجهاضها بالعمل العسكرى ضدها أو بثغرات نظامها.
أجهضت الثورة العرابية، واحتلت مصر عام (١٨٨٢) وران صمت طويل بأثر الانكسار حتى ارتفع على المسرح السياسى صوت «مصطفى كامل».
أجهضت ثورة (١٩) بالتلاعب بالدستور والحكومات وحرمان «الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، من حقه فى الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها فى حركة المجتمع والثقافة والفنون والتعليم، جعلت مصر أكثر ثقة فى نفسها ومستقبلها.
بروح نقد الثورة فى أربعينيات القرن الماضى بزغت روح جديدة وتيارات فكرية جديدة، مهدت الطريق لـ(٢٣) يوليو، التى حاربت وحوربت، أنجزت وانتكست.
وبروح النقد، التى تولدت بعد نكسة يونيو (١٩٦٧) ، تأكدت قيم المشاركة السياسية ودولة المؤسسات بجوار إعادة بناء القوات المسلحة من جديد على أسس علمية حديثة، وإبعادها عن أى تورط فى السياسة الداخلية.
وقد كان إجهاض ثورة «يناير» حلقة جديدة فى الظاهرة نفسها، لكن بصورة أفدح.
لماذا كان تراجع الثورات سمة عامة بعد فورة البدايات المبشرة؟
هذا سؤال فى الحاضر وأزماته.
إن أسوأ اقتراب من ملفات التاريخ، الإعراض عن الحقائق والثأر بالتهجم.
باستثناء «يوليو»، فإن ثورة أخرى لم تحكم، وقد تعرضت أكثر من غيرها إلى تحديات ومخاطر ومحاولات اغتيال زعيمها.
لماذا جمال عبدالناصر بالذات؟
فى استهدافه حيا وميتا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
أى كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروعه، أو يلحق به سياسات «أنور السادات» و«حسنى مبارك» وما بعدهما، تجهيل بالتاريخ يستهدف الذاكرة العامة حتى يكفر المصريون بأى معنى حقيقى للثورة، وحقوقهم الطبيعية فى التحرر والاستقلال والعدل، أو أى تطلعات للتصحيح والتصويب حتى يمكن بناء دولة مدنية ديموقراطية حديثة، كما طمحت «يناير» المجهضة.
لكل ثورة سياقها التاريخى، وأى كلام خارج سياق زمنه تهاويم فى الفضاء.
«يوليو» لعبت دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقدر ما لعبت ثورة (١٩١٩) دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.
«يناير»، ثورة هذا الزمان، حيث طفرة الاتصالات والمعلومات، حتى لو بدا الميلاد عسيرا والجنين مخطوفا.
رغم أية محاولات لاصطناع القطيعة بين ثورات مصر، إلا أن كلا منها تتصل بما سبقها وتؤسس لما بعدها.
فى سنوات يوليو أطلق «عبدالناصر» أوسع عملية حراك اجتماعى نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدر مشهد حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى وإفريقيا ملهما العالم الثالث كله.
قيمة «عبدالناصر» الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس ونزاهته الشخصية كرست صورته فى التاريخ، غير أن التناقض كان فادحا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
ذلك يستدعى المراجعة بأكبر قدر من الموضوعية حتى تستبين الحقائق أمام أجيال جديدة يراد لها أن تنكر تاريخها حين حاربت وانتصرت، أو تراجعت وهزمت، دون أن تدرك وهذا حقها: كيف.. ولماذا؟
وصف الشاعر السودانى «محمد الفيتورى» ما جرى فى يونيو، وما بعده بـ«جلال الانكسار».
كان ذلك التعبير قريبا فى معناه ودلالته، مما أطلقه الشاعر العراقى «محمد مهدى الجواهرى» فى وصف «عبدالناصر» بـ«عظيم المجد والأخطاء».
لا توجد ثورة واحدة فى التاريخ بلا أخطاء جسيمة ارتكبتها، ولا ثورة هدمت قديما متهالكا، وأسست لجديد يتطلبه عصره جرت وقائعها فى معامل كيمياء تتوافر لتفاعلاتها كل شروط الأمان.
كما لا توجد ثورات عابرة للعقود والقرون، وثورة «يوليو» بنت عصرها وتحدياته ومشروعها، كأى مشروع آخر، يجرى عليه التصحيح والتصويب بالنقد والإضافة، حتى يكتسب جدارته فى الانتساب إلى المستقبل.
إرث الثورات لا يدفن فى مقابر الصدقة، فهو موضوع مراجعة تجارب وتراكم خبرة، وتأكيد على القيم السياسية التى رسختها، والأحلام التى أطلقتها حتى يبنى عليها دون الوقوع فى الأخطاء التى أودت بها.
بقوة مشروعه اكتسب صفة «آخر العمالقة» بتعبير الكاتب الأمريكى «سيروس سالزبرجر».
قوة «عبدالناصر» الكامنة فى مشروعه السياسى العريض لا فى ثغرات نظامه القاتلة.
لم يكن ممكنا أن تأخذ هزيمة «يونيو» (١٩٦٧) مداها المروع لو لم تكن الأوضاع داخل المؤسسة العسكرية منكشفة بالتجاوزات وقلة الكفاءة، وتتفشى فيها مراكز قوى أضعفت درجة اليقظة لأية مخاطر على الحدود، أو أى استعداد لمواجهة عسكرية، وما لم يكن النظام كله مقفولا ومنكشفا لأخطاء جوهرية فيه أدانها «عبدالناصر» نفسه فى محاضر رسمية بعد الهزيمة.
تقويض التجربة بإنجازاتها ومشروعاتها وتوجهاتها الرئيسية جرى من داخل النظام.
لم يحدث انقلاب عليها من خارجها، وجرى المشى على خطها بـ«استيكة»، كما تقول نكتة شهيرة شاعت فى سبعينيات القرن الماضى.
لا يصح استبعاد استهداف «يوليو» من قوى خارجية بالتآمر عليها، والوثائق متوافرة طوع من يريد أن يقرأ ويعرف، لكنه لا يفسر وحده ما حدث من تقويض.
لم يكن نظام «يوليو» قادرا على حمل مسئولية المشروع إلى مدى أبعد.
تقول رواية متواترة إن الطالب «جمال عبدالناصر» لعب دور «يوليوس قيصر» فى مسرحية «وليام شكسبير»، التى تحمل الاسم نفسه على مسرح مدرسته الثانوية.
لم يكن ممكنا لمن شاهدوا ذلك العرض المسرحى المدرسى أن يخطر ببالهم أن الطالب الذى يمثل دور «يوليوس قيصر»، أو يصرخ متألما بعبارته الشهيرة: «حتى أنت يا بروتس» سوف يلقى مصيرا مماثلا فى قادم الأيام، حين يتنكر له بعض رجاله ويطعنون فيه.
لماذا صعد مشروعه؟ وكيف خذله نظامه؟
هذا موضوع أية مراجعات جدية بعد (٦٦) سنة على ثورة «يوليو».