خلايا الدكتور غنيم الصاحية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 6:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خلايا الدكتور غنيم الصاحية

نشر فى : الخميس 22 سبتمبر 2011 - 10:15 ص | آخر تحديث : الخميس 22 سبتمبر 2011 - 10:15 ص

من أطيب مفاجآت دعوة العشاء واللقاء مع رجب طيب أردوغان أننى فوجئت بحضور الدكتور غنيم من المنصورة، وكان يُستقبل بحفاوة ومحبة من رموز العمل الوطنى فى القاعة، بجوار صديقه وشقيق دربه الدكتور محمد أبوالغار، سلَّمت على الدكتور أبوالغار وكان الدكتور غنيم ملتفتا للسلام على أصدقائه ومحبيه، وما إن استدار ورآنى حتى غمرنى بحرارة الود التى أذابت شعورا مقيما عندى بالتقصير تجاهه، فقد كان بيننا موعد تأخرت عنه شهورا، وتحول السلام إلى عناق أبهجنى وأراحنى فهمست فى أذنه معتذرا عن تقصيرى، لأفاجأ به يلتمس لى عذرا «فى اللخبطة اللى موجودة».

 

وأى لخبطة؟! قلتها بأسف لم يتمكن منه الإحباط، ففى حضرة الدكتور غنيم لا مكان للإحباط، فهو يذكرنى دائما بمقولة لطه حسين عندما سُئل عن السعادة فأجاب: «السعادة هى أن نقوم بما يتوجب علينا القيام به»، ولقد قام غنيم ويقوم بأقصى ما يتوجب على مصرى محترم أن يقوم به، سواء فى مضماره الطبى الذى ارتفع به إلى مستوى عالمى رفيع الإنسانية ونفاذ الرؤية والرقى المهنى، أو فى دوره الوطنى متواصل الشجاعة والتفانى، كمناهض عنيد للنظام الساقط فى أوج جبروت ذلك النظام، ثم بعد الثورة التى تكالبت عليها كثرة الضباع والسباع والخفافيش والثعالب!

 

برغم عمله السياسى الوطنى لم يكف الدكتور غنيم عن عمله العلمى، سالكا على الأرض المصرية مسار الجراحين العالميين الكبار، فبعد أن يقطعوا الشوط الهائل فى مسيرتهم العلاجية، ينعطفون لفتح نوافذ واسعة على البحث العلمى المعملى. ولقد قطع الدكتور غنيم على هذا الدرب وفى مجال أبحاث الخلايا الجذعية خطوات واعدة وذات وزن دولى، لكنه كعالم حقيقى يحترم نفسه ويحترم العلم، يرفض أن يتحدث عن منجزه إلا بعد تمامه.

 

فى آخر لقاء به، دعانى الدكتور غنيم للاطلاع على بعض ما توصل إليه، وكنا وقوفا أمام حاسوبه الشخصى وهو يعرض صور الشرائح المعملية، وراح يعرفنى بما أشاهده، بافتتان جمالى وكأنه يعرض لوحات فنية باهرة تعبِّر فيها الخلايا عن تطوراتها وتغيراتها الجينية بتشكيلات لونية وتكوينية صاعقة الجمال. وهو عالِم فنان، أسعدنى كثيرا عندما استضافنى فى شقته، التى لم يغيرها منذ كان مدرسا شابا، بعرض شىء من الأفلام التسجيلية التى صورها تحت الماء فى البحر الأحمر باهر الألوان الذى يهوى الغوص فى أعماقه، أفلام تكاد تكون احترافية فى تصويرها والمونتاج والموسيقى التصويرية المصاحبة والتترات!

 

رجل مثل هذا عندما يعمل فى السياسة أصدقه، بل أمضى معه دون تردد بعد أن علمتنى الأيام أن السلوك هو معيار المصداقية لا حنجورية ولا برَّاق الكلام. ولولا أننى اخترت لنفسى موقع الكاتب المستقل عن أى انتماء سياسى لانضممت دون تردد لحزب الدكتور غنيم والدكتور أبوالغار، الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، لمجرد أنهما فيه، فما بالك عندما يكونان من مؤسسيه. وإننى أتعجب للأحزاب الديمقراطية المؤمنة بالعدل الاجتماعى كشرط حقيقى للحرية، لماذا لاتجعل من هذا المُرتكَز نواة لتحالف سياسى مصرى للدولة الحديثة وطموح النهضة؟!

 

وعلى ذكر النهضة، فقد أوحت لى ببُعد من أبعادها اللازمة، إشارة من الدكتور غنيم وردت فى لقاء مع النبيهة منى الشاذلى فى برنامج العاشرة مساء، وقد كانت الإشارة عن عمل الدكتور «شينيا ياماناكا» فى مجال الخلايا الجذعية، والذى توقع له الدكتور غنيم فوزا مُستحَقا بجائزة نوبل لو عدِلت الجائزة. لم تستغرق هذه الإشارة أكثر من دقيقة لخص فيها الدكتور غنيم إنجاز العالم اليابانى بأنه إعادة الساعة الحيوية للخلية البالغة إلى الوراء لترجع إلى النقطة التى كانت فيها خلية جنينية، ومن ثم لا تعود هناك حاجة لاقتناص خلايا من أجنة مُجهَضة لمواصلة أبحاث الخلايا الجذعية الواعدة جدا فى مجال الطب التجديدى.

 

فى هذه الدقيقة التى مر فيها الدكتور غنيم بتركيز واضح على ما يقوم به العالم اليابانى، وجدت مستقبِلات الدهشة داخلى تومض بشدة، وشرعت بعدها وحتى كتابة هذه السطور فى تعقب هذه الرؤية العلمية الاستثنائية وتأمل محتواها الموحى بالكثير فى العلم وفى الحياة، وفى قضية النهضة المرتجاة لدينا.

 

وهل لنا من نجاة مما نحن فيه من «لخبطة» إلا بإزاحة كل معوقات التهافت والتخلف والتنطع، عن درب هذه النهضة؟

 

لقد تعرَّف العالَم من قبل على عملية تحويل الخلايا الجسدية البالغة إلى خلايا جنينية عند الإعلان عن ميلاد النعجة «دوللى» بالاستنساخ، وهى العملية التى قام بها فريق بحثى بقيادة الدكتور إيان ويلموت عام 1996، وفى هذه العملية تم التحويل عن طريق «التجويع والترويع» للخلية المستهدَفة، وأظن أننى أول من صك هذا التعبير عندما كتبت عن الاكتشاف فى حينه لمجلة العربى حين كنت محررها العلمى، فعبرت بشكل أدبى عن المحتوى العلمى لدفع الخلية الجسدية لتصير جنينية بعد سحب المواد المغذية من محيطها وصعق نواتها بشحنة كهربية دقيقة، كما نوهت إلى تشابه ذلك الشرط القاسى مع ظاهرة ازدياد الخصوبة تحت وطأة الخوف والجوع عند البشر، وهى الظاهرة التى رصدها عالم الاجتماع خوسيه دى كاسترو فى كتابه «جغرافية الجوع»، وأومأت إلى تشابه ذلك كله مع حالات الولادة المبكرة أو وضع البيض قبل الأوان عند تعرض إناث الحيوانات أو الحشرات لشدائد مُهدِّدة للحياة.

 

الجديد فى عمل شينيا ياماناكا أنه لم يجوِّع ولم يروِّع الخلايا البالغة حتى تتحول إلى خلايا جنينية، بل قام بما يسميه «إعادة برمجة» الخلية، بحيث تعود عقارب ساعتها الحيوية إلى مرحلة مبكرة كانت فيها خلية جنينية، وبتعبير آخر: إعادة الخلية إلى شبابها الولود، ولكن بوسائل غير خشنة ولا عدوانية كما فى عملية الاستنساخ، وإنما بتسلل ناعم لغرس أربعة جينات محددة فى المجمع الوراثى للخلية (الجينوم)، عن طريق فيروسات معقَّمة تعمل كوسيلة نقل تحمل هذه الجينات وتنزلها فى جينوم الخلية. بعد ذلك تقوم هذه الجينات المقحَمة بعملية تنشيط لجينات فى الجينوم كانت خاملة، وتثبيط جينات أخرى كانت نشطة، فتعود عقارب الساعة الحيوية للخلية إلى زمنٍ كانت فيه جنينية، وهى عملية ابتكرها شينيا ياماناكا ومنحها اسم «الخلايا المصنعة متعددة القدرات الكامنة «iPs»، إشارة إلى قدرة الخلايا الجنينية على توليد خلايا أخرى من أنواع مختلفة، للقلب أوالمخ أو الجلد أو العضلات أو غيرها. وهو فتح مذهل فى أفق الطب التجديدى، أوحى لى بفكرة للنهوض، لو أصررنا على النهوض مما نحن فيه!

 

أتذكر فى لقاء بعيد بالدكتور غنيم فى المنصورة أننى رجوته وقد كان ينزل للشوارع لجمع توقيعات المطالب السبعة للجمعية الوطنية للتغيير إبان ذروة جبروت نظام مبارك الساقط وحزبه المنحل، رجوته ألا ينزل الشارع حفظا لمقامه وخوفا عليه، فما كان منه إلا أن قال لى «بصراحة أنا بانزل علشان ادعم حماس مجموعة شباب زى الفُل إخلاص وأدب ووطنية ومش عايزهم يُحبَطوا». وهذه هى المسألة الآن، فى أبحاث الخلايا الجذعية الأكثر تطورا، كما فى السياسة ومطامح الترقى والنهوض.

 

هذه هى المسألة، وراجعوا معى ما وصلنا إليه، ابتداء من فتنة التعديلات الدستورية ولجنتها الاستشارية التعيسة ومتحدثها الإعلامى المتعصب القاتم والعائد ليهدد بمظاهرات الخمسمائة مليون! وصولا إلى متملقى المجلس العسكرى بالأمس والذين تنافخوا يهددونه الآن بالاستشهاد لو خالف هواهم وتلمُظهم للسلطة، إضافة إلى مهازل المكفِّرين للأقباط وغير الأقباط، والمدعين كذبا بأن الليبرالية تعنى كشف العورات، والمهلِّسين بزعم أن محاكمة مبارك حرام وتصدير الغاز لإسرائيل حلال! ولتلاحظوا أن كل هؤلاء ممن تجاوزوا سن الكهولة، وعيَّنوا أنفسهم معلمى الأمة وآياتها ووكلاء الله فى الأرض، شأنهم فى خلطة ما يسمى بالإسلام السياسى، شأن عواجيز الفرح من المتمترسين وراء الحصون الخشبية لمقولات الشيوعية الآفلة، بينما الشباب هاهنا وهاهناك براء منهم.

 

الذين صنعوا الثورة هم أساسا شباب، من كافة أطياف المجتمع المصرى واجتهاداته السياسية والفكرية، وهم قادرون على العودة إلى بكارة أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة، شرط أن يتخلصوا من قبضات الشيخوخة التى تصر على احتوائهم، فهم خلايا ربانية «متعددة القدرات الكامنة»، وقادرون على توجُّه صحى نحو المستقبل، وقابلون بصفاء لاستعادة وحدة الأمة، سواء كانوا من يسار أو يمين، من إخوان أو سلف. بل حتى شباب الألتراس، ذلك الجندى الباسل المجهول فى انتصار الثورة، كاسرو شوكة التغول الأمنى لنظام المخلوع وحزبه المنحل.

 

هؤلاء الشباب جميعا هم الخير والبركة الحقيقية وعتاد النهوض لو تنازل العواجيز عن نرجسية عتيهم فى العمر وعشقهم للأضواء والمقاعد العالية والمنابر التى يقرفص تحت أقدامها شباب أطهر من مرتقيها لو تخلصوا من سحر الاستلاب الأسود للشائخين أرواحا وعمرا داخل الثياب البيضاء.

 

ونداء لشرفاء المجلس العسكرى، الذين لا أزال مؤمنا بصدق وطنيتهم وحيرة إخلاصهم أمام سوء من استشاروهم من المدنيين العواجيز الذين راكموا عليهم وعلى الأمة كل هذا الضباب القاتم، إنه إثم وطنى وروحى عظيم أن يظل شاب وطنى واحد فى السجن مهما كانت ذريعة القبض عليه، فهؤلاء الشباب هم لبنات بناء المستقبل، تماما مثل خلايا المنشأ الشابة متعددة القدرات الكامنة، وهم الأقرب والأصدق من الجوهر الوطنى للعسكرية المصرية مهما تجاوزا. ولتراجع الأمة نفسها، فقد آن أوان المراجعة، وإلا تمدَّد عته الشيخوخة الروحية وموت الأمل.

 

آمل فى الأمل

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .