قنبلة جدى - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قنبلة جدى

نشر فى : الخميس 22 أكتوبر 2009 - 8:45 م | آخر تحديث : الخميس 22 أكتوبر 2009 - 8:45 م

 أذكره فيشرق وجهى بابتسامة عطف وزهو، وينشرح صدرى بارتياح. وقد كان أعجوبة مموهة فى جلباب فلاحى واسع الأكمام وطاقية من طواقى النوم ذات الحائط العالى وحذاء كاوتش باتا، بنى اللون غالبا، يرتدى ساعة، ويقرأ ويكتب جيدا، ويبرع فى الرسم الهندسى، ويدخن سجائر رفيعة قوية العبق يلفها بماكينة أنيقة من الفضة!

لم أر عجوزا أعتق منه، ولا أنحف، ولا أحفل وجها بغضون تشير إلى تراكم ما يقارب التسعين عاما، بل تزيد، وأظنه مات فى عمر المائة، أو أكثر. يأتى من السنبلاوين لبيتنا فى المنصورة فيستولى علىّ، وألتصق به، وأتطلع أن أكون مثله مخترعا! فقد كان يصنع البنادق، حتى أدق تفاصيلها، على يديه، وبعدة بَرَّاد يدوية لا تزيد عن مبرد ومنجلة ومنشار صغير للحديد. وفى فناء بيته الكبير بحى «الحوال» العتيق بالسنبلاوين، كانت ورشته الريفية، وساحة تجاربه، حيث يصنع السلاح، والمراجل الصغيرة، وأول أفران المخابز العاملة بالكيروسين، وبوابات ونوافذ وأسوار الحديد المشغول، وأهلة قباب ومآذن المساجد، والقنابل الموقوتة.. منذ ثلاثة وتسعين عاما وأكثر!

فى يوم من أيام عام 1916، وتحت جنح ليل حى «الحوال» الذى تنوس فيه لمبات الجاز، هبط على الأسطى على حسين شرف الدين، صانع البنادق، والمشهور بالقدرة على صناعة أى شىء فى نطاق التخيل، رجلان يخفيان ملامحهما عرّفا نفسيهما بأنهما طالبا خدمة. «خير»؟ سأل جدى. «خير يا حاج على». لكنه لم يكن خيرا على وجه التحديد، بل كان تدبيرا خطيرا لاغتيال السلطان حسين كامل!

والسلطان حسين كامل هو الابن الثانى للخديوى إسماعيل، وقد نصبه الإنجليز سلطانا على مصر فى 19 ديسمبر 1914، بعد خلع الخديوى عباس الثانى واقتطاع مصر من الدولة العثمانية، وكان ذلك بعد يوم واحد من إعلان مصر محمية بريطانية تحت الاحتلال. هذا السلطان حسين كان من قبل رئيسا لمجلس شورى النواب، وهو من أنشأ نظارة أو وزارة المالية، وخط سكة حديد حلوان القاهرة، ويعتبر أول حاكم لمصر تُضرَب النقود باسمه، وأول من خرم التعريفة.. والقرش صاغ والنكلة والمليم، والنصف مليم أيضا! لكن يبدو أن تبعيته لسلطة الاحتلال جعلته مكروها من الناس، بدليل أن جدى وافق على إعداد قنبلة طلبها الرجلان لدسها فى سرادق حفل يحضره السلطان حسين بعد أسبوع واحد، فى المنصورة.

صنع جدى نموذجين لقنبلة تنفجر بمؤقت ميكانيكى، وأخذ قنبلة منهما ليجربها فى كوم سباخ بعيد فى فضاء قرية الحصاينة. وكان كوم السباخ ليس تلة صغيرة، بل جبلا يضم كل سباخ القرية بارتفاع بيت من عدة أدوار. دس القنبلة فى جبل السباخ بعد ضبط مؤقتها فى أول الليل حيث الناس نيام والكون ناعس، وما إن وصل سيرا على الأقدام إلى السنبلاوين التى تبعد ثلث ساعة مشى عن الحصاينة حتى لمع وراءه برق، وقَصَفَ رعد، ووصل غبار السباخ المنسوف إلى حيث يقف على مبعدة عدة كيلومترات من مكان الانفجار!

«آآآآآه»، زفرها جدى متداركا، وتهاوى يجلس حيث كان على شاطئ ترعة البوهية، وعلى خلفية من نقيق الضفادع وصفير الجنادب وبشهادة النجوم المرتعشة فى سماء القطيفة السوداء العالية، أخذ يتعوذ من الشيطان الرجيم، ويستغفر ربه، ويحمده أنه أراه هول ما يمكن أن يخرج من بين يديه. فكر: إذا كان غبار السباخ تطاير عدة كيلومترات من الحصاينة إلى السنبلاوين، فكم إنسانا بريئا ستتطاير أشلاؤه لو انفجرت القنبلة الثانية فى سرادق السلطان حسين؟ «لأ.. دى مش هداية الرحمن دى غواية الشيطان» كان هذا هو ملخص القناعة التى وصل إليها جدى؟

«يفتح الله. بينى وبينكم ربنا»، قطع جدى ما بينه وما بين الثائرَين اللذين عاوداه ليطمئنا على أداة الاغتيال، ظنا أنه يريد نقودا، فأغرياه بالنقود. ولم يرد عليهم، بل أخرج علبة لف السجائر التى من الفضة، ولفّ لنفسه سيجارة راح يدخنها مديرا لهما ظهره. وقد كانت هذه طريقته عندما يخاصم أحدا من الناس، حتى أنا حفيده الصغير الذى كان بين العاشرة والثانية عشرة، وهو فوق التسعين.

يشرق وجهى مبتسما عندما أتذكره بعد كل هذه السنين، وينشرح صدرى بارتياح، ويتردد نشيده فى روحى «دى مش هداية الرحمن دى غواية الشيطان.. يفتح الله. بينى وبينكم ربنا»، إنه جدى، العبقرى الريفى المُمَوّه فى جلباب بلدى واسع الأكمام، وطاقية بحيطان عالية، وحذاء كاوتش باتا وساعة يد، المبتكر بمعطيات بيئته وزمنه، والعادل فى اللحظة الحرجة، والذى تجلّى لى مرات عديدة بعد موته.

تجلى لى عندما قرأت مسرحية العادلون لألبير كامى التى تناقش لا أخلاقية قتل طفلين كانا فى عربة القيصر لحظة تنفيذ عملية اغتيال، ولم يتوقف هذا الجد عن التجلّى لى، مع كل انفجار تتطاير فيه أشلاء الصغار والأبرياء والعُزّل، فى باكستان والهند وأفغانستان ومدريد ولندن والجزائر وأندونيسيا والعراق، وفى أى مكان تنفجر فيه هذه الشحنات الخسيسة، بحزام ناسف أو سيارة ملغومة أو دابة مسكينة لا تعرف ماذا حمّلوها به، أو أطفال مغرر بهم، بل وصل الأمر إلى حد استخدام المتخلفين عقليا والمرضى النفسيين فى مثل هذه الانفجارات المنحطة.

نعم منحطة، ويزيدها انحطاطا أن مرتكبيها يقبلون عليها وهم يظنون أنها فتوحات ربانية ومصاعد للشهادة، وما هى إلا استدراجات شيطانية وأعمال قتلة ومنتحرين. أما شيطان الاستدراج، فيمكن أن يكون مهووسا تنكّب «الإمارة» ويمارس جنونه، أو منجوسا يعمل بوعى لئيم لصالح جهاز استخبارات قذر كالموساد، أو عصابات مرتزقة من محترفى القتل تسمى شركات خدمات أمنية كـ«البلاك ووتر».

رحمة الله عليك ياجَدّى.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .