نعود إلى البدايات: إذا كانت التواريخ القديمة والحديثة للدول وللمجتمعات البشرية تدلل على أن التنظيم الديمقراطى بقيمه المتمثلة فى سيادة القانون والحرية ومواطنة المساواة ورفض التمييز وحيادية مؤسسات الدولة وأجهزتها إزاء تمايزات المجتمع وتنوعاته هو الأقدر على حماية الحريات الدينية وضمان الحق فى ممارسة الشعائر الدينية دون خوف أو قمع أو اضطهاد، فإن غياب الديمقراطية وتمكن الاستبداد أو السلطوية من الدول والمجتمعات عادة ما يقترنان بحضور التمييز ضد المجموعات الدينية أو المذهبية أو العرقية الأقل عددا، وبتصاعد موجات الطائفية البغيضة التى تنزع الإنسانية عن أتباع الدين الآخر أو المذهب الآخر أو المنتمين للعرق الآخر وتحرض بإجرام على ممارسة العنف ضدهم، وبتراجع الحريات الدينية أو اقتصار ضماناتها على الأغلبيات.
أسجل هذا فى أعقاب الاعتداء الإجرامى على كنيسة السيدة العذراء بالوراق (محافظة الجيزة) والذى (حتى لحظة كتابة هذه الأسطر) أزهق أرواح ثلاثة وأصاب عددا أكبر من بين صفوف مصريات ومصريين أقباط تجمعوا يوم الأحد الماضى بالكنيسة للمشاركة فى حفل زفاف. أسجله فى هذا الهامش مجددا، فقد بدأت مقالات هامش الديمقراطية فى يوليو ٢٠١٣ بنقد الطائفية والدعوة إلى مقاومتها، لكى لا نكتفى فقط بالإدانة اللازمة للاعتداء الإجرامى ولا بالمطالبة الواجبة بسرعة العمل الأمنى لتقديم المجرمين إلى العدالة ومحاسبتهم القانونية، ونتجاهل ضرورة المقاومة الجادة لواقع التمييز على أساس الدين والمذهب وللممارسات الطائفية التى ومنذ عقود تهدد السلم الأهلى وتنتقص من حقوق وحريات الأقباط وغيرهم كالشيعة والبهائيين.
ولا سبيل للمقاومة الجادة للتمييز وللطائفية إلا بدفع النخب المسيطرة اليوم على الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وعلى العمل التنفيذى وعلى التفاعلات المرتبطة بالدستور والأطر القانونية والانتخابية (أو بعبارة أخرى النخب المشكلة لسلطة الأمر الواقع) إلى إدخال تعديلات تضمن اعتماد مواطنة المساواة وضمانات الحقوق والحريات دون تمييز على أساس الدين أو المذهب كمبدأ دستورى عام ومجرد ينبغى ألا يقف عند حدود أتباع الديانات الكبرى الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية وتجرم كافة أشكال وممارسات الخروج عليه. لا سبيل للمقاومة الجادة إلا بالمطالبة بالتزام النخب ومن ورائها الدولة بتفعيل سيادة القانون وبحماية حقوق المواطن وحرياته على نحو مبدئى والكف عن الانتقاص منها أو انتهاكها، فالالتزام المبدئى هذا هو أساس رفض التمييز والطائفية وضمان المساواة. لا سبيل للمقاومة الجادة إلا باستعادة مسار حقيقى لبناء الديمقراطية والمباعدة بين الدولة والمجتمع فى مصر وبين الفاشية الدينية والاستبداد العسكرى والسلطة الأمنية، فالأنماط الثلاثة تتساوى فى انتقاصها الممنهج من الحقوق والحريات وتبريرها للتمييز على أساس الدين أو المذهب الذى تنطلق منه الفاشية الدينية وقد تلجأ إليه نظم الاستبداد العسكرى والسلطة الأمنية كستار شعبوى وغير إنسانى يستميل الأغلبيات ويمرر القمع والاضطهاد.
مجتمعيا، لا سبيل للمقاومة الجادة للتمييز وللطائفية إلا بتوظيف كافة الوسائط التربوية والتعليمية وتلك المرتبطة بالمساحة العامة كوسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى والأخرى ذات الصلة بالسياسة كالأحزاب لنشر قيم مواطنة المساواة وقبول الآخر الدينى والمذهبى والتسامح والعيش المشترك القادر على نزع فتيل المقولات الزائفة المبررة للتمييز وللطائفية. بيد أن نشر القيم هذه يقتضى أيضا استعادة إنسانية المجتمع المصرى الرافضة مبدئيا للانتقاص من الحقوق والحريات والتى تترنح اليوم على وقع أخطار الإرهاب والعنف والتحريض عليه من جهة والممارسات الأمنية من جهة أخرى.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.