«شتاء داخلي».. عصفورٌ في قفص - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 2:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«شتاء داخلي».. عصفورٌ في قفص

نشر فى : السبت 24 يونيو 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : السبت 24 يونيو 2023 - 7:05 م
أفكر دائمًا فى أن القصة القصيرة هى أقرب فنون النثر إلى الشعر، بلغتها المكثفة المصوّرة، وبطموح الكاتب أن يقيم علاقات وأبنية موازية للواقع، رغم أنها نابعة منه، وبتلك النغمة السائدة، وبذلك اللون الغالب، الذى يميز كل قصة، ويميز المجموعة القصصية بأكملها.
يصل التكثيف، والاهتمام بالإيقاع والنبرة، إلى حد أنه يمكن أن تأخذ فقرة منثورة، من قصة قصيرة لامعة، وتحولها إلى سطور مستقلة، فتبدو مثل مطلع قصيدة. ليست شعرًا، ولكنها تؤدى دور الشعر فى بناء القصة المكثف.
قفزت إلى ذهنى هذه المعانى، وأنا أقرأ «شتاء داخلى»، تلك المجموعة القصصية البديعة، التى أعاد مؤلفها القاص والروائى أحمد زغلول الشيطى طبعها من جديد، فصدرت عن منشورات سشات.
كتب الشيطى هذه القصص بين عامى 1979 و1989، وصدرت المجموعة لأول مرة فى العام 1991، أما العقد الذى استغرقته الكتابة، فهو بحق عقد فاصل، مهّد لتحولات هائلة، وكما يوضّح الشيطى فى مقدمة الطبعة الجديدة، فهى سنوات سلام كامب ديفيد، واغتيال السادات، وسقوط النموذج السوفيتى، وبزوغ عصر النيوليبرالية. وكأننا أمام عصر يموت، وآخر يحاول أن يولد، وسط مخاض مؤلم.
لهذه التحولات أثرها بالتأكيد على تلك الحالة من الاغتراب، التى تمنح القصص لونها الرمادى، ونغمتها الحزينة، ووصفها الداخلى الفذ، الذى يجعلنا نتأمل عالما ضيقا محدودا (حجرة فى الغالب)، يبدو قديما متهالكا، فالأماكن مشققة الجدران، والمياه تنقط من الأسقف، وعيون الفئران تطل من الفتحات، وبطلنا، مثل عصفور فى قفص، عاجزٌ ينتظر مصيره، بل وتبدو بعض النصوص مثل كوابيس متكررة، أكثر من كونها وصفا حقيقيا لعالم موضوعى.
ثلاثة أقسام يشملها عالم هذه المجموعة القصصية: فى القسم الأول بطل وحيد مهمش يتأمل ذاته وعجزه وعالمه محكم الإغلاق، وفى القسم الثانى ينفتح قليلًا عالم البطل الوحيد، وتظهر شخصيات أخرى، يبدو لنا البطل فى قلب الطابور، أو فى قلب العمل، أو مع صديق، ولكنه لا يبرأ أبدًا من صوته الداخلى المهدد والمنذر، ولا يخرج فى الواقع من أزمته، لا بل إن الفرد المهمش عندما اتسعت رؤيته لمعاينة التهميش الجماعى، تضاعفت أحزانه، وتضخّم إحساسه بالعبث والعجز.
فى هذا القسم عدة نماذج من أروع ما قرأت فى فن القصة القصيرة، مثل قصة «صوب النخيل»، وهى درّة المجموعة، وقصة «وجه عصرى»، وقصة «بيان رباعى»، وقصة «تشيكوف».
فى القسم الثالث تظهر نغمة جديدة، تقتحم لحن البطل الوحيد المحاصر، وهى نغمة الهروب، والبحث عن فرصة للانعتاق من هذا الحصار، ولكن الهروب فى هذا القسم لا ينجح، أو يظل معلّقا، وأقرب إلى الحلم.
البطل فى هذا القسم الثالث أصغر سنا، يكتشف أسرته، ومهنته التى فرضت عليه، ويتأمل عقابا وألما فى اتجاهات شتى، ولكنه، رغم سنه الصغير، وتعبيره البسيط، عن عالم محدود يضغط عليه، ويجعله يفكر فى الهروب، إلا أنه يعى مأساته فى وقت مبكر، بينما تبدو كلمات مثل «البحر» و«المحطة» و«القارب» كعناوين للنجاة، دون أن تساهم فعليا فى تحقيق النجاة.
القصة القصيرة الناضجة لا تُحكى، ولكن تقرأ فى نفس واحد، لأنها مثل قصيدة الشعر الجيدة.
ينطبق هذا الوصف على معظم قصص المجموعة، التى يمكن أن تعتبرها متتالية قصصية، لأنها تصف حالة لشخصية واحدة تقريبًا، فى أطوار حياتية مختلفة، كما أن عيون الراوى، مثل عيون الفنان التعبيرى، تنظر إلى الداخل، وتسقط نظرتها الداخلية على الواقع، تجسّم الأشياء، وتضخم مخاوفها ووحدتها، شتاؤها داخلى، كما تصفه إحدى القصص، ولذلك يظل تأثير الصديق، والمرأة، والعمل، شاحبا، وتظل الرؤية من ثقب متلصص على العالم، يشعر بالوحشة، حتى وهو وسط الواقفين فى طابور، دماء الأبرياء تغرس سكينا فى جسده، ويليق به أن يتمدد فى تابوت، احتوى يوما جثمان أبيه.
يتكرر اسم الخال عبدالستار فى عدة قصص، فيؤكد لنا وحدة شخصية البطل، ولكن الخال لا يحمى، والأم تبدو مهانة ومطرودة أحيانا، وصور الصبية المعاقبين فى الورش تطارد بطلنا الصغير، والزمن هو عصر الحمير بامتياز.
الغربة تأخذ طابعها المجسم المخيف، ففى قصة «وجه عصرى»، يتحالف الوسط المحيط على اقناع بطلنا بتغيير وجهه ليناسب العصر.
إنها قصة كفكاوية بامتياز، لا يحلها سوى الموت، فلا الواقع يسمح بالاندماج، ولا تغيير الوجه مقبول، وتكرار حضور الأقارب، لا يجلب الونس والاطمئنان كما نتوهم، بل إنه يجسد معنى الاغتراب، وهو دليل المفارقة، والفشل فى التكيف.
عودة إلى بناء بعض القصص مثل قصيدة شعر، هذه مثلا الكلمات الافتتاحية لقصة «صوب النخيل»، وقد أعدت تفكيك عباراتها، لتصنع كل عبارة سطرا مستقلا، بدلا من دمجها فى النص فى فقرة واحدة:
«مرور الوقت
حدّ السيف
أرى الوجوه فى طابور دائرى
نفس الملامح
ملطخة بالسخام
بكدح الأرض هناك
فى البهو ذى الأعمدة والرخام
فى الردهات الطويلة المعتمة
حيث رائحة البول المختمر
وغبار الملفّات
وفى الليل أحلم بالفرار
أو أن أكسر زجاج النافذة
بيدى العارية».
هذا وصف مكثف لحالة، لا يقنع برصّ الكلمات، ولكنه يصنع علاقات جديدة بينها، ترسم فى النهاية صورة مكتملة، بلون خاص، وبموسيقى محددة، وهذا بالضبط معنى الشعر، وغايته.
محتوى القصة عن ألم داخلى يمزق محام، يدور فى ساقية الهامش والمهمشين، يُفترض أن يدافع عن الغلابة، فيما يبدو هو نفسه مأزوما، ولديه صوت داخلى يهدده بالقتل.
لا يمكن التعبير عن هكذا حالة سوى بتلك المراوحة بين واقع الشخصية، وحياتها الداخلية، بين وصف موضوعى، وحوار واقعى، وبين وصف للألم الداخلى، بعبارات وإيقاعات خاصة، وكأنه عالم مواز. هنا توظيف لتكنيك الشعر، دون أن نفقد معنى القصة.
وهنا اسم كبير فى عالم القصة والكتابة، هو أحمد زغلول الشيطى، الذى يستحق أن يُقرأ بكل العناية والاهتمام.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات