رأسٌ آخر تجب استعادته - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 7:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رأسٌ آخر تجب استعادته

نشر فى : الخميس 24 ديسمبر 2009 - 9:11 ص | آخر تحديث : الخميس 24 ديسمبر 2009 - 9:11 ص

 اسمها «نفرتيتى» كان يعنى: «الجميلة التى أتت». من أين أتت.. وكيف اختفت.. وما قصة هذا التمثال النصفى الجميل لرأسها الجميل؟، والذى يقبع فى صندوق من زجاج مُدرَّع، تحت أضواء كاشفة وحراسة مشددة فى متحف برلين؟ إنها أسئلة تحتوى إجاباتها على ما يجعل الريح تصفر فى رءوسنا، وتستدعى بصفيرها عمرا من الاستلاب عاشت مصر ولا تزال تعيش فيه، فثمة رمز لرأس أحدث، تم نقله من مصر إلى ألمانيا أيضا،

لكن منذ أعوام قليلة، وهو يُعرَض فى متحف بميونيخ. وبرغم اختلاف طبيعة الرأسين، فإنهما يثيران الشجون ذاتها التى لم تفارق فتون تاريخنا، منذ آلاف السنين، وحتى هذه اللحظة. ولنبدأ برأس «الجميلة التى أتت».

من اسمها يُرجِّح البعض أنها من أصول غير مصرية، أتت إلى أرض الفرعون لتوثيق العلاقات بين بلادها ومصر، وفتن حسنها أمنحتب الرابع، الذى صار أخناتون، كما فتنتها إنسانية مصر وتساميها الروحى فى عاصمة الفرعون الموحِّد «تل العمارنة»، والتى كانت مفتوحة الذراعين للبشر جميعا، تحفل بكثيرين من أصول غير مصرية تمصّرت أذواقهم وأرواحهم، وقد تكون نفرتيتى سليلة هؤلاء، وطبيعى أن أخناتون الذى اهتدى قلبه لبداهة التوحيد، انجذب فؤاده لبديع خلقتها، فكانت زوجته الأثيرة، وأم بناته الست، ورفيقة دربه الأرضى والسماوى، ولابد أنه كان يراها ببصيرته قبل بصره، فلم يتقبل فكرة أن تشوب جمالها شائبة، لهذا جعل النحاتين فى تل العمارنة يختصونها باستثناء لم يمنحه أخناتون حتى لنفسه، وهذا مما ينطق به التمثال موضوع النزاع والمباحثات المصرية الألمانية الآن.

أخناتون الموحِّد، كان منطقيا أن يطبع فن النحت فى عاصمته بطابع مختلف قوامه التواضع، ويتمثل فى تصوير الحياة والأحياء بواقعية، تطلعا للتآلف مع الحقيقة الحية، حتى أن تماثيل أخناتون نفسه كانت تُظهِره كما هو، فلا تُخفى تشوهات جسده، أما نفرتيتى، الجميلة التى جاءته من فردوس غامض للحسن، فكان لها الاستثناء، حتى فى مواجهة أثر السنين، ولابد أن النحات الملكى «تحتمس» قد تلقى إيحاءات هذا الاستثناء من أخناتون نفسه، فأبدع نحت نفرتيتى كما تراها بصيرة الفرعون العاشق، وهو سر كشفت عنه الأبحاث الحديثة فى التمثال الشهير.

التمثال النصفى لرأس نفرتيتى الفاتن وعنقها الساحر وجزء من كتفيها ناعمىِّ الاستدراة، والمنحوت من الحجر الجيرى الملون، والبالغ طوله 50 سنتيمترا، والذى يعود تاريخه إلى قرابة 3300 عام إلى الوراء، أجرت عليه مجموعة من الباحثين الألمان المتخصصين فى التصوير الداخلى التابع لمستشفى شارتيه فى برلين سلسلة من الفحوصات بالتصوير الطبقى، وعثر الباحثون على وجه من الحجر الجيرى منحوت بدقة تحت الوجه الخارجى، مما يُظهر أن النحات وضع طبقات خارجية من الجص بسماكات مختلفة على التمثال الداخلى، بهدف إخفاء تجاعيد عند زوايا الفم، ومُعالجة تَغيُّر طفيف فى منحنى الأنف.

سرٌ كشفت عنه الأشعة المقطعية، وأسرار يهجس بها تاريخ الجميلة التى أتت، والتى كما أتت من غموض، اختفت أيضا فى غموض، فى العام الرابع عشر من حكم أخناتون، وعندما عَثر عالم الآثار الألمانى «لودفيج بورشاردت» على رأسها بين قطع أخرى فى تل العمارنة عام 1912، فتنته وحركت فى نفسه ما يتحرك فى نفوس الغربيين تجاهنا عادة، أى الشعور بعدم استحقاقنا لأى فضل أو جمال، فكان أن أخفى التمثال ونقله إلى بيته فى الزمالك، وقدم أثناء مفاوضات اقتسام الآثار مع مصر صورا رديئة للتمثال الملطخ بالطين ليبدو تافه القيمة، ثم هرّبه إلى ألمانيا على سفينة وسط كومة من الفخار، فظهر التمثال عام 1923 مطلا على مرتادى قسم المصريات فى متحف برلين، ليبهر العالم، ويثير خلافا مصريا ألمانيا لم يُحسَم بعد، وهو خلاف يستدعى للخاطر رمزا مختلفا لرأسِ مصرىٍّ حديث، يقبع فى متحف ألمانى آخر، فى ميونيخ هذه المرة، وهو ينطوى كذلك على فتون وشجون، وأخبار وأسرار، وهواجس تُحيِّر وتُمَرْمِر!

إنها طائرة، ليست كأى طائرة، فهى تجسيد لنوع من التفكير الوطنى المخلص فى رأسٍ شريف، كان يرى فى إنهاض الصناعة الوطنية سبيلا للمنعة والرفعة، فكان مشروع النهضة الصناعية المصرية, الذى يخترق ببصيرته كل الأنحاء، مدنية وعسكرية، خفيفة وثقيلة، وكانت هذه الطائرة «القاهرة 300» أو «حلوان 300» مثالا على جدية المسعى.

ففى بداية الستينيات، بدأت مصر عبدالناصر مشروعا طموحا لإنتاج طائرة نفاثة مقاتلة أسرع من الصوت، وقام المهندس الألمانى المشهور «ويلى مسريشمت» بتصميم الطائرة، واستقدمت مصر خبير المحركات النفاثة «فريدناند براندر» لتصميم محرك متطور للطائرة المأمولة، ووافرت على أرضها فى حلوان فريقا من المهندسين النابهين والفنيين المهرة وورش التصنيع وأماكن الاختبار.

ظهر المحرك الجديد «إى 300» فى يوليو 1963، ثم النموذج التجريبى للطائرة فى مارس 1964، وشاركت الهند بالمساعدة والتمويل لتطوير المحرك لاستخدامه فى طائرتها المقاتلة من نوع «ماروت 24»، كما استقبلت اثنين من الطيارين المصريين لكلية الطيران بالهند ليتدربا على قيادة طائرة هندية مشابهة للطائرة المصرية الجديدة، وبعد عودتهما حلقا فعليا بالطائرة «القاهرة 300»، والتى شهد الخبراء بأنها جمعت بين ميزات الميراج الفرنسية والميج الروسية، ومن ثم تتفوق على أى منهما منفردة. ولكن، بينما كانت الطائرة على وشك الدخول على خط الانتاج توقف كل شىء، وشهد عام 1969 آخر تحليق لذلك الحلم.

كان جهاز الاستخبارات الإسرائيلى قد روع بطروده الناسفة واستهدافاته القاتلة العلماء الألمان المشاركين فى المشروع، ومارس السوفييت ضغوطا للتخلى عنه، فقد كان أفضل لهم أن تسود السماء المصرية طائرات الميج والسوخوى، خصوصا مع قدوم مزيد من الطيارين السوفييت لدعم الدفاع المصرى بعد نكسة 67. ثم كانت الخاتمة الغريبة لهذه القصة عام1991، عندما سمح من سمح بترك النموذج الأولى من الطائرة ينتقل إلى ألمانيا، ويستقر ويُعرَض كمُنتَج ألمانى فى معرض الطيران بميونيخ!

إنه شىء غير مستغرَب من الألمان، لكنه مُستغرَب من المصريين، الذين سمحوا بخروج الطائرة والتخلى عنها، فكون الألمان أشرفوا على تصنيعها لا ينفى أبدا مصريتها، فالنهضة الصناعية فى الدنيا كلها ما هى إلا انتقال خبرات، وفى الدول النامية التى تقدمت صناعيا بدأت التجارب باستيراد خبرات من العالم المتقدم تحولت مع الوقت والجهد إلى خبرات وطنية خالصة، حدث هذا فى التجربة الكورية والصينية والماليزية والبرازيلية، أما نحن، فيبدو أن هناك كسلا عقليا وخسة إرادة لدى المتنفذين، الذين يريحهم ويفيدهم أن نظل مستهلكين وتابعين، فأقصى ما تنجزه مصر صناعيا الآن لا يجعلها أكثر من محطة تجميع لمنتجات يستعد الغرب للتخلى عنها، ومزبلة للصناعات الملوِّثة للبيئة التى يبعدها العالم المتقدم عن أراضيه!

مصر يحكمها نوع من التفكير رخو وبليد وشديد الخطر على الحاضر والمستقبل، ويجعلنا ننظر إلى نموذج الطائرة المصرية الرابضة على أرض معرض ألمانى كرمز لرأس مصرية لا تقل أهمية عن رأس نفرتيتى، رأس تفكر فى تطوير الصناعة الوطنية كأداة رئيسية ضمن أدوات النهوض والاستقلال والوفرة، رأس يتوجب علينا ألا نكتفى باستعادتها، بل الأهم أن نستعيد منطقها، الذى يبدو أنه لن يعود، إلا فى رأس جديد.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .