المهاجرون بدينهم - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المهاجرون بدينهم

نشر فى : الخميس 24 ديسمبر 2009 - 10:13 ص | آخر تحديث : الخميس 24 ديسمبر 2009 - 10:13 ص

 فى إحدى زيارتى إلى سويسرا فى عام 1998 مع وفد من مجلس الكنائس وجهت لنا الدعوة لزيارة جامع فى جنيف بدعوى من الجالية الإسلامية هناك، وعند دخولنا إلى صحن الجامع وجدت مجموعة من الأطفال تتحلق حول أمام الجامع الذى يقوم بتعليمهم كيفية الوضوء. وبعد درس نظرى سريع أخذهم إلى الصنابير والأحواض ثم بدأ فى الوضوء، وهم يقومون بتقليده.

وهنا وقف عائق أمام التعليم جعل الإمام ينهرهم ويتعصب ويصرخ فى وجوههم بغضب، مما لفت نظرنا وظهرت علامات التعجب على الوفد المرافق، وكان جميعهم من الغرب خاصة أمريكا، لأنهم لم يفهموا سبب غضب الإمام.

عندما اقتربت من الإمام وسألته بادرنى بالقول باللغة العربية متهكما وقد كان مصريا بالمناسبة هؤلاء الأطفال الخواجات (كان نصفهم عرب ونصفهم من جاليات أخرى) يحاولون أن (يتنخموا) أى يشفطون الماء من أنفهم ويخرجونه من أفواههم، ولا يستطيعون بل إنهم يرفضون هذه الحركة (البصق)، ويتكبرون عليها قائلين: نحن نرفض هذا الصوت الغريب الذى يخرج من أنفك، إنهم أولاد كفار!!

وفى عام 2006 قام مركز القاهرة لحقوق الإنسان بدعوتى والأستاذ صلاح عيسى لزيارة الدانمارك عقب أزمة الرسومات المسيئة للرسول. هناك التقينا رئيس تحرير صحيفة يولاند بوسطن، التى قامت بنشر الصور، كما التقينا المصور نفسه، وسمعنا منهم القصة وكانت كالتالى، أن مؤلفا لقصص الأطفال كان بصدد تأليف كتاب عن حياة الرسول للأطفال يحتاج لرسام لكى يقوم برسم الكتاب،

فأرسل رئيس تحرير الصحيفة إلى عدة رسامين لم يقبل المهمة منهم إلا رسام وحيد، وقد طلب عدم وضع أسمه على الرسومات لأنه كان يخاف من مصير المخرج الهولندى فان جوخ الذى قتله أحد المسلمين لأنه أخرج فيلما يسىء للإسلام، وفى برنامج تليفزيونى فى الدانمارك عبرت مسلمتان عن تأييدهما لقتل المخرج الهولندى، ولذلك أجلوا إخراج الكتاب لأجل غير مسمى، حتى وقعت بعض الأحداث التى دفعتهم لإخراجه..

الحدث الأول: قام فنان إنجليزى بصنع مجسم عبارة عن مجموعة من الآيات من التوراة والإنجيل والقرآن ممزقة تماما موضوعه فى إطار زجاجى مكتوب عليه (الله أكبر) ووضعه فى متحف فى إحدى ضواحى لندن، وجاء المدير صباحا وأزال هذا المجسم دون العودة للفنان خوفا من رد فعل الجالية الإسلامية، وذلك حتى بدون سؤال الجالية. أما الحدث الثانى: فقد وقع فى السويد عندما قام فنان مسلم سويدى برسم جداريه تحتوى على مناظر جنسية، وفى أعلى اللوحة جزء مقتطف من الآيات القرآنية عن الحوريات وقد أزيلت هذه الجدارية أيضا خوفا من رد فعل الجالية الإسلامية.

أما الحدث الثالث والأخير: فهو اجتماع أربعة من الأئمة فى السويد مع رئيس الوزراء مستر هانز، وقدموا له طلبا بفرض رقابة على الصحف، وهنا قام رئيس تحرير الصحيفة بعقد اجتماع لهيئة التحرير دعا فيه كبار المثقفين الدانماركيين وبعض السياسيين، وتحدثوا عن اختراق المسلمين للمجتمع العلمانى والتراث المدنى الليبرالى وأن أوروبا اليوم أصبحت تعانى من الإسلامفوبيا، وهكذا قرروا كسر الحاجز ونشر الصور محتملين أى نتائج.

فى اليوم التالى قمنا بزيارة المركز الإسلامى، وهناك التقينا بابولن رئيس المركز وهو من أصل فلسطينى وقد تعجبنا من حديثة لأنك تخرج منه بخلاصة أنه يريد أسلمة الدانمارك وتحويلها إلى دولة إسلامية يحكمها بالشريعة.

وفى وقت معاصر لزياراتى هذه أى فى العشرين سنة الأخيرة كنت أقوم بزيارة المهاجرين المسيحيين وزيارة كنائسهم ومراكزهم، ولم يختلف الحال كثيرا، فالمسيحيون المصريون أخذوا معهم تقاليدهم وأعرافهم وثقافتهم وأصبحت الكنيسة بالنسبة لهم ملتقى عربيا يجتمعون فيه معا حتى لا يختلطوا بالحضارة الغربية المنحلة التى لا تتوافق مع الدين الذى تربوا عليه فى مصر.

وهم يخافون على الجيل الثانى والثالث من الذوبان فى المجتمع الغربى ويعيشون فى كميونات. ورغم أنه توجد كنائس كثيرة هناك فإنهم فى معظمهم يرفضون التعامل مع هذه الكنائس متعللين بأن سلوكهم مختلف وفهمهم للإيمان المسيحى مختلف.

وفى أحد الأيام دعيت لحضور ندوة عن صراع الأجيال فى الجالية المصرية فى أمريكا التى عقدت فى أحدى الكنائس، وقد صدمت صدمة مروعة بعد أن قدمت حديثا عن التفاعل بين الشباب والكبار فى مصر إيجابا وسلبا، حيث جاءت الأسئلة من الكبار على نغمة أن أولادنا لا يحترموننا كما كنا نحترم آباءنا وأمهاتنا، أنهم لا يسمعون الكلام ونحن نضغط عليهم حتى لا يقيموا علاقات خارج الجالية العربية..

قلت لهم إن هذه النغمة لست أسمعها فى مصر من أكثر من عشرين عاما، واليوم لدينا اختلاط بين الجنسين فى النوادى والمؤتمرات والكنيسة والجامع، وقد تعجبوا من كلماتى، ثم عندما بدأ الشباب فى الحديث بدأوا يتحدثون عن والديهم وكأنهم من أهل الكهف، فهم يريدون أن يأمروا فيطاعوا وهم يرفضون الحوار، وإذا حاورناهم ليس لديهم منطق بعد أول جملة اعتراضية ترفع أصواتهم ذلك إن لم ترفع أياديهم..

وقد أنهى الحوار شاب لديه أربع عشرة سنة حين قال إن والدينا الذين هاجروا من عشرين عاما على الأقل غير متأكدين حتى اليوم من أن قرار هجرتهم صحيح، فهم يضغطون علينا على الطريقة المصرية لكى نذاكر دروسنا، وإذا نجحنا يقولون إن قرار هجرتهم كان صحيحا وعندما نفشل يتحدثون عن العكس.. وهنا ضحك الجيل الأصغر، وكأن هذه القصة متكررة فى كل البيوت، واستشاط الكبار غضبا على هذا الولد الصفيق، وكان لابد من إنهاء الندوة حتى لا يقع ما لا يحمد عقباه.

تداعت كل هذه الذكريات إلى ذهنى مع أزمة مآذن سويسرا، وتساءلت: لماذا يحدث هذا هكذا.. وألخص إجابتى فيما يلى:
أولا: إن المهاجرين تمسكوا بقشور دينهم على أنه صحيح الدين.


كل دين ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: فكر دينى وعبادات (فرائض) وسلوك، والمتدين المصرى يضع على قمة أولوياته العبادات والفرائض لإرضاء الله، أما الفكر الدينى فهو يتلقاه معلبا جاهزا من أمام الجامع وقسيس الكنيسة مهما كان مستواه الثقافى، وفى مشكلاته يسمع للفتاوى الجاهزة دون إعمال العقل، وفى النهاية يأتى السلوك الذى هو قبول الآخر والمعاملة.. إلخ،

وهو لا يعير لهذا اهتماما بالمرة بل يعتبره رفاهية، وبهذا الترتيب يحكمون على الغرب لكن الغرب ترتبه عكس ذلك فهم يهتمون بالسلوك المتمثل فى قبول الآخر والعمل الجماعى لبذل الذات لأجل الوطن وحفظ السلام فى المجتمع وإتقان العمل والحرية.. إلخ، لذلك كل من يذهب إلى الغرب يقول إنه رأى مسلمين ولم ير إسلاما، بينما فى مصر إسلام بدون مسلمين.. والمقصود أن أخلاقيات الغرب من ممارسة الصدق واتقان العمل والشفافية هى تعاليم الإسلام وعلى نفس النسق أسلوب تفكير المسيحيين، ولذلك عندما هاجروا قبضوا على دينهم كالقابض على الجمر، لكن الحقيقة هم قابضون عل القشور والشكل الخارجى.

ثانيا: إن المهاجرين توقفوا عن النمو.
عندما تتحدث على المهاجرين تشعر أنهم توقفوا عن النمو فى السنة التى هاجروا فيها، لذلك هم يستغربون أن الكنيسة والمسيحيين فى مصر يتطورون فى تفكيرهم الدينى ويختلفون معهم ذلك لأنهم فى بلاد الغرب لم يتلامسوا مع المجتمع الغربى وثقافته وحضارته وكنيسته، فى الوقت الذى انقطعوا فيه عن التلامس مع وطنهم، فتوقفوا ثقافيا ودينيا عند نقطة معينة ولم يتحركوا منها، فهم ما زالوا يعيشون ويفكرون كما كانوا فى بلادهم من عشرين أو ثلاثين عاما، ونفس الأمر مع المسلمين، وعندما يعودون فى إجازات لبلادهم يتعجبون من الانحلال الأخلاقى، الذى حدث فى مصر ومن الصور العارية فى الصحف والأغانى التى تشبه الغرب التى يغلقونها على أنفسهم وأولادهم فى بلد هجرتهم، بل يتعجبون لأساليب الحوار فى الأسرة والكنيسة والمجتمع والجامع.

ثالثا: إن المهاجرين يتلقون الإرشاد الدينى من أوطانهم.
يتطلع المهاجرون دائما إلى أوطانهم ليتعلموا من رجال الدين، الذين لم يهاجروا ولم يعيشوا خارج الأوطان وإذا زاروا هذه البلاد فلشهور قليلة، فهم لم يتفاعلوا مع حضارات مختلفة فتأتى تعاليمهم يشوبها قصور واضح فى تطبيق تعاليم الدين فى المهجر. فمثلا يتحدث فقهاؤنا الأجلاء عن ما يسمى فقه الضرورة وفقه الواقع، وهو نفس ما تتحدث عنه القيادات فى الكنيسة لكن بأسماء أخرى، لكن المفهوم هو أن هناك ضرورة للهجرة لتحسين المعيشة، ولذلك علينا أن نتعامل مع هذه المجتمعات بمقدار ما تسمح به ظروف المعيشة، فلا نختلط بهم على حساب الدين وإلى درجات معينة ولا نتشبه بهم فى أى شىء أنها ضرورة وضعت علينا.

علينا أن نحتملهم وأن نعلمهم أصول ديننا، فالمسلم المهاجر يدعو المسلمين فى المهجر لمعرفة إسلامهم ويدعو غير المسلمين إليه، والمسيحى المهاجر ــ وهذا عجيب ــ يعلم المسيحية للأوروبى لأنه لا يعترف بمسيحيته. وهكذا يفهم فقه الضرورة وفقه الواقع على أنه خداع، فالمهاجرون يتعاملون من الخارج وكأنهم مواطنون صالحون، وقد أقسموا على دستور هذه البلاد أن يحافظوا على الدستور وسلامة الوطن، ويخضعون لقوانينه، ثم يتحركون داخل المجتمع تحت فقه الضرورة وفقه الواقع انتظارا لتغيير الواقع والقفز على الدستور الذى اقسموا عليه وتحقيقه، فهل هذا هو التدين الحقيقى الصحيح؟!

إن ما حدث فى سويسرا مؤخرا بما سمى أزمة المآذن هو أحد مظاهر الأزمة، التى سوف تستمر طالما لا تعالج من جذورها بفهم حقيقى للأنا والآخر والقدرة على التعامل مع مجتمعات المهجر بصدق وشفافية وإخلاص حقيقى.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات