سرقها أشراف روما - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سرقها أشراف روما

نشر فى : الثلاثاء 24 ديسمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 24 ديسمبر 2013 - 8:00 ص

ركنت كل الأوراق جانبا، كى أتفرغ للموضوع الذى خطفنى وأثار اهتمامى. الحكاية أصلا تتعلق بالبحث عن أصداء تراجيديا «يوليوس قيصر» فى حياة عبدالناصر، الذى مثّل هذه الشخصية على خشبة المسرح، حين كان طالبا، عام 1926.. قادنى البحث إلى دروب جانبية، وإلى مناطق وأسماء وأحداث، مهمة، فاتنة، تغرى المرء للتوغل فيها، وتأمل معانيها، ودروسها، وتداعياتها.. ومنها المسألة التالية.

فى الربع الأول من القرن الماضى، دأبت فرق التمثيل المصرية على تقديم عروضها فى البلاد العربية مستعينة بأبناء هذه البلاد للقيام بأدوار هامشية، الأمر الذى فتح الطريق أمام الفتى «حقى الشبلى»، الذى أصبح رائد المسرح العراقى، والذى قام بدور ابن الملك أوديب، أمام جورج أبيض، وهو لم يتجاوز، حينها، الثالثة عشرة من عمره «1913 ــ 1985»، وبعد سنوات قليلة، عاد جورج أبيض إلى بغداد ليقدم «يوليوس قيصر»، وكالعادة، لم يكن بصحبته سوى الممثلين الأساسيين، وبالتالى، عليه البحث عمّن ينهضون بأدوار الكومبارس، أشراف روما، وعددهم ليس بالقليل.. ولأن العرض سيتم فى «الميدان» أوسع ساحات بغداد، ملتقى وسائل المواصلات، العامرة بالمقاهى التى يغشاها المسافرون، ومثل كل المحطات الكبيرة، لا تخلو من اللصوص والمترنحين سكرا والنصابين والمفلسين، اقترح البعض على جورج أن يستعين ببعضهم، وفعلا، تم تدريبهم، فى يوم واحد، على صعودهم ونزولهم من خشبة المسرح، وأخذ كل منهم العباءة البيضاء التى يتلفع بها، والاكسسوارات اللازمة، مثل السيف وقلادة الصدر.. ومع صوت الحاجب الجهورى، وهو ينادى: يا أشراف روما.. تقدموا لتقديم الولاء للقيصر.. بدأ صعود «الأشراف»، ولأن جمهور المشاهدين يعرفهم، انطلق فى تعليقات بالغة الطرافة، فما إن يقف أحدهم فى دائرة الضوء حتى يصيح الحضور:

ــ لك.. هذا منو؟ ها عبود النشال.

ــ وهذا.. يه.. علوان الحرامى.

ــ الأوباش.. عاملين أشراف.

فى مساء اليوم التالى، فوجئ جورج أبيض باختفاء الملابس والاكسسوارات، سأل عنها، أجابه حقى شبلى، المشارك فى العرض: سرقها أشراف روما.

كل مفردة فى الحكاية، لها تاريخ يستحق أن يروى. المكان: الميدان، سيشهد لاحقا، احتفالات ومباهج فعندما غنت أم كلثوم، لاحقا، فى أحد الفنادق، وضع صاحب الفندق مكبرات صوت فى الميدان الذى امتلأ بعشاق الطرب، وما أكثرهم فى العراق.. وتطور الميدان، نهضت فيه البنايات الأنيقة، وافتتحت مطاعم ومحال، وشهد مظاهرات عارمة على مدى ما يقرب من القرن، وتعرض للدمار مع الحروب المتوالية.. وفيما يشبه الرثاء، كتبت مقالات بعناوين تكاد تنهنه بالبكاء، تصفه بـ«تاريخ طويل طواه البؤس».. أو «قلب الرصافة الذى توقف نبضه».

ثمة حقى الشبلى، الموهوب، الذى أثار إعجاب جورج أبيض، حين مثّل أمامه دور الابن فى «أوديب ملكا» لسوفكليس، مما جعل أبيض فى نهاية العرض، يربت على كتفه، وينحنى، بجسمه العملاق، ليقبل رأس الفتى الذى أدرك ساعتها وقرر، أن يكون الفن مهنته وحياته.. فيما بعد استجاب الملك فيصل الأول لطلب فاطمة رشدى، المتعلق بسفر الشبلى، معها، للقاهرة، وضمه إلى فرقتها التى يشرف عليها المخرج المتفهم لمهنته، أستاذ التمثيل، عزيز عيد.. بعد عدة مسرحيات، يسافر إلى باريس، ليتمكن من دراسة المسرح وفن الأداء. يعود للعراق ليكوّن أكثر من فرقة مسرحية، ثم يأتى للقاهرة وقد أصبح شابا أنيقا، جميلا، طويلا، تلتمع عيونه باليقظة والذكاء، نجما، على غرار روبرتو فالنتينو ونجم الأربعينيات، ويقوم بدور أساسى فى فيلم «القاهرة بغداد» لأحمد بدرخان 1947، أمام مديحة يسرى، ومعها العراقية، ذات الصوت القوى، المفعم بالمشاعر، عفيفة اسكندر.. وبهذا، يكون الاثنان، حقى وعفيفة، أول عراقيين يسطعان على شاشة السينما المصرية. حقق الفيلم نجاحا كبيرا فى بغداد، حيث عرض فى ثلاث قاعات، فى وقت واحد.. يعود حقى إلى العراق ليواصل مساهماته الفنية، ويؤسس «شركة سومر للسينما»، وينشئ قسم المسرح فى معهد الفنون الجميلة، ويغدو نقيبا للفنانين.. هكذا، مشوار طويل، مثمر وخلاق، انطلق فيه الرائد، حقى الشبلى، إثر تربية على ظهره، وقبلة على رأسه.. من جورج أبيض. أما عن العبارة الموجزة، المكثفة التى قالها الشبلى لجورج أبيض، تفسيرا لاختفاء ملابس واكسسوارات «يوليوس قيصر» ــ سرقها أشراف روما ــ فإنها عاشت فى الضمائر، والذاكرة، والوعى، لتظهر، بعد ثلاثة أرباع قرن من الزمان، لتختزل الكثير من الأمور، وتعبر بعمق وبلاغة، عن الموقف الوطنى من الاحتلال الأمريكى، و«يوليوس دولارات»، حسب تسمية أطلقها صحفيون على قيصر البلاد، مندوب البيضة الأبيض «بول بريمر».

فى «المنطقة الخضراء»، توالت زيارات البعض، للحاكم الجديد، الوافد، وفورا، استعيدت أحداث «الميدان» ليلة تقديم جورج أبيض لتراجيديا وليم شكسبير، فكما أن الجمهور تعرف على اللصوص والنشالين الذين قاموا بدور «أشراف روما»، فإن أهالى بغداد، وبقية المدن، يدركون تماما، أن الذاهبين لتقديم فروض الولاء لـ«يوليوس دولارات»، ما هم إلا الحثالة.. وتنصح المقالات الهجائية، العامرة بروح التهكم، أن تكون إجابة المواطن، إذا سأله أحد عن نقود الدولة أو عائدات البترول والضرائب، هى «سرقها أشراف روما».. وهى إجابة نموذجية، تنطبق علينا، ربما أكثر من غيرنا.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات