هبْرة العباسية الدامية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 1:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هبْرة العباسية الدامية

نشر فى : الأربعاء 25 فبراير 2009 - 11:22 م | آخر تحديث : الأربعاء 25 فبراير 2009 - 11:22 م

 من الطبيعى أن أكون فى حالة حنين لمستشفى العباسية وحنوٍّ عليه، خاصة وأنا أستلهم منه عملا أدبيا نشرت بعضه الشروق فى عدد الجمعة الماضى..

فأجمل حجرة كشف عملت بها طبيبا كانت ظل شجرة من أشجار مستشفى العباسية، لأن عنبر المرضى المزمنين الذى كنت مسئولا عنه لبعض الوقت كان يستحيل العثور فيه على مكان ملائم، سواء للجلوس أو حتى للتنفس، ومن ثم كان الممرضون يضعون لى منضدة ومقعدين تحت شجرة من أشجار الفناء الوارفة.

وهناك كنت أناظر المرضى الثلاثين الذين قضى معظمهم فى المستشفى أكثر من عشر سنوات، بل عشرين أحيانا، ولم يعد لهم مكان خارجه، سواء فى بيوت أقاربهم البائسين البائسة، أو فى الشوارع التى لا مكان لهم على أرصفتها كونها صارت كاملة العدد بمن هم أصغر وأشرس وأعمق تشردا.

فى هذا المكتب تحت الشجرة قمت بتجربة علاجية أظنها مهمة، فأوقفت أطنان العقاقير المنوِّمة والمهدئة والمخمِّدة التى كانت تتكرر أسبوعيا على مدى سنوات وسنوات، وحرصت على إطلاق المرضى أطول وقت ممكن خارج العنابر، مع الكثير من الاغتسال والقليل من حُسن المعاملة، والمراقبة بلا غلاظة، ومصادرة عُصىِّ الممرضين التى اعتنقوها طويلا كوسائل علاجية رادعة وناجعة!.

جاءت النتائج مدهشة، فلم يكن المرض العقلى الخامل يعاود نشاطه إلا فى أعقاب احتكاك المرضى بعالم «العقلاء»، عندما يذهبون فى «إجازة» قصيرة لبيوت أقاربهم، أو عندما يأتى بعض هؤلاء الأقارب لزيارتهم، وهنا كان ينبغى استخدام الأدوية لفترة قصيرة، حتى تعود السكينة لهذه الأرواح المهدودة والممزقة.

ومن هذه التجربة خرجت بيقين أن الطب النفسى فى بلد يعج بالفقراء كمصر، لابد أن يكون له منطق آخر غير منطق «الفكر الجديد»، وحذلقات المصريين الأنجلوفون، وأن مدينة كالقاهرة فى حاجة إلى عشرين مستشفى كالعباسية، على اعتبار أن النسبة العالمية لمرض الفصام ـ وهو بند واحد من بنود المرض العقلى ـ تقارب الواحد فى المائة من مجموع السكان، وهذا يعنى أن هناك قُرابة مائتى ألف مريض فصامى فى القاهرة وحدها..

فلو قلنا إن عُشْرَهم فى حاجة لدخول مستشفى مجانٍ، وأضفنا إلى هذا العُشر مرضى الأنواع المختلفة من الأذهان، وكذا مرضى الإدمان وعته الشيخوخة، والشيخوخة المبكرة، لوضحت لنا الحاجة إلى عشرين مستشفى بحجم العباسية على الأقل. فعنابر مستشفى العباسية بكل بؤسها ورِقة حالها هى جزيرة رحمة حقيقية، ليس بالمرضى الفقراء وحدهم، بل بالمجتمع أيضا.

لقد جرت محاولة سابقة، منذ قُرابة عشرين سنة، لاختزال عدد نزلاء مستشفى العباسية، بحجة ظاهرية هى التحديث الطبى، وحقيقة مخفية هى التمهيد لتفريغ المستشفى من المرضى وبيع أرضها، لكن موجة من جرائم جنونية ارتكبها المرضى الضائعون فى الشوارع، انفجرت فى المجتمع فساعدت شرفاء الطب النفسى فى إيقاف الجريمة الأكبر، والمتمثلة فى تصفية مستشفى العباسية وتشريد نزلائه الذين لا مأوى لهم، ولا معين، ولا فاهم أو راحم من الناس.

جرائم بدت وتبدو شاذة ولا عقلانية، لكن عندما ندرك أنها جرائم مخلوقات سحقها ويسحقها الاغتراب والخوف، وأنها تضرب ضرباتها المجنونة من فرط الذعر فى زحام مشحون بكل عناصر العنف والتهديد، نوقن أنه لا مناص من استيعاب هؤلاء البائسين المعدمين، أبناء المعدمين، باحتوائهم فى مآوٍ تصون لهم آخر ما تبقى لهم من سكون وسكينة.

ليست القضية هنا إنسانية فقط، ولا طبية فقط، بل هى اجتماعية ذات نذير جنائى بالغ الخطورة. وإذا كانت الرحمة لا تحرك حكما ومجتمعا كالذى نحن فيه، فعلى الأقل ينبغى منح السكينة لهؤلاء المساكين لأسباب نفعية، حتى لا تُقطِّع سكاكين رعبهم وفزعهم رقابا مغدورة، تُفزع المجتمع وتُحرج الحكم فى الداخل كما الخارج، وليس مرتكب مذبحة المتحف المصرى، ولا سفاح المعادى، ببعيد.

لقد شاهدت مذبحة أشجار مستشفى العباسية التى عرضتها منى الشاذلى فى «العاشرة مساء» السبت بقناة دريم، وامتلأتُ بالغضب دون العجب، فهذه ليست أول مرة تجرى فيها مذبحة كهذه. والتاريخ الشفهى لمستشفى العباسية يذكر واقعة لمذبحة أخرى لأشجار المانجو فى فناء المستشفى جرت منذ سنوات عديدة، فبزعم إزالة الأشجار اليابسة والآيلة للسقوط، تمت سرقة عشرات الأشجار النادرة بانتزاعها حية بجذورها، ونقلها سامقة إلى فناء مستشفى خاص لأحد رءوس الطب النفسى، الأتقياء!.

مذابح أشجار العباسية ـ كما تخريجات وحذلقات «التحديث»، وظفلطات قانون الطب النفسى «الجديد» ـ لا أراها إلا نوعا من الحومان حول فريسة يسيل لها لعاب وحوش وجحوش نهب أراضى الدولة. لكن العباسية ليست ملكا لهذه الدولة، بل هى ملك خاص للمرضى النفسيين، الفقراء منهم خاصة، ومنذ عام 1882.

كان قصرا خديويا يسمى السراى الحمراء التهمه حريق، فرُمِّم وطُلى باللون الأصفر ووهبه مالكوه للمرضى النفسيين كمستشفى مجانٍ، لكن يبدو أننا نعيش فى زمن يجعلنا نتحسر على عصر الخديوية بكل جنونهم وبذخهم وغرابة أطوارهم.

إن مستشفى العباسية يمتد على مساحة تزيد على ستين فدانا تساوى عدة مليارات، فهى هبرة ضخمة، تتلمظ لها أفواه فاغرة، وتنفتح عليها أشداق غبية، ومكمن الغباء هو أن هذه الهبرة سيُغَصُّ بها المجتمع كله.

فهى هبرة عسرة الهضم كما اللحم النيئ العجوز المُدَمَّم الحرام. لكن يبدو أننا نعيش فى زمن يذهب فيه سعار الهبر بعقول بعض السفهاء منا، بعض الكبراء فينا، وما مذابح أشجار العباسية الحية إلا نذير بما هو مُضْمَر، وهو أكبر، وأخطر.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .