(صباح الخير يا طير).. بين مودَّةٍ وعتاب - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 5:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(صباح الخير يا طير).. بين مودَّةٍ وعتاب

نشر فى : الخميس 25 فبراير 2010 - 9:37 ص | آخر تحديث : الخميس 25 فبراير 2010 - 9:37 ص

 «صباح الخير يا طير»،

عبارة لطيفة توقظ بها الأم أولادها الذين تأخروا فى النوم، وهى تبعًا لنبرة الصوت والطريقة التى تُقال بها قد تحمل معنى التودُّد والتحبب حتى يستيقظ الأولاد مبكرين كالطيور. وقد تحمل معنى العتاب والاحتجاج لدفع الأولاد الذين طال نومهم حتى يستيقظوا بعد أن سبقتهم الطيور.

وفى صباح الجمعة الماضى وجدت العبارة تُلِحُّ علىّ بشدة، خاصة وقد كنت فى المنصورة بينما أولادى فى القاهرة، والمنصورة تُرهف حواسى وذهنى بدرجة مؤثرة، مما يؤكد على بحث كنت قرأته منذ سنوات ويقول بأن الإنسان يفكر ويُحسُّ أفضل ما يكون فى المكان الذى وُلِد فيه، وهى نظرية يمكن فهمها فى ضوء الارتباط الشرطى بنوعية البيئة التى خرج إليها الإنسان من رحم أمه.

«صباح الخير يا طير»،

وجدتنى أرددها داخلى فى صبح المنصورة الباكر وأنا أفتح باب شرفة غرفتى فى الفندق المطل على ميدان المحطة، وأعب من النور ومن الهواء المبترد الرطيب الذى يكون ألطف ما يكون عندما تقل درجة الحرارة عن 26 مئوية، وهو أفضل هواء أشعر فيه بارتياح أنفاسى وصحو نفسى، وقد كان استيقاظى فى هذا الصباح مشحوذا بالمشاعر وأثر الدموع!

«صباح الخير يا طير»،

رحت أقولها للمشهد الملتف بشبورة رقيقة تطفو حول الأبنية والبيوت التى أعرفها وأحبها حتى آخر أفق المدينة، بينما أتذاكر صديقى الدكتور عامر سنبل الذى تركته نائما بالأمس بين يدى الرحمن وتراحُم أصدقائنا وزملائنا الأساتذة والأطباء الرائعين فى طب المنصورة، وكانت عواطفى تهتز أمامه على حافة البكاء بينما أسمع صوته الواهن المتألم الرهيف يجيب عن دعائى وندائى له «انشاء الله تقوم بالسلامة ياعامر»، «انشاء الله يامحمد»، وكنت أكبح دمعى، لكن أعماق الليل كشفت لى عن وجه آخر لينابيع الدموع.

فقرب الفجر حلمت بأننى أطل على منحدر تندفع هابطة عليه سيارة زيتونية اللون مدرعة وإن كانت مدنية، وبداخلها من فهمت أنه شخص ذاهب للتضحية بحياته سدادا لديون أخطاء ارتكبها فى الحياة، وسمعت صوت سيدة إلى جوارى تشير إليه وتسألنى «مش بطل؟»، وسمعتنى أجاوبها «طبعا بطل»، وانفجرت فى البكاء، وأيقظنى صوت نشيجى لأجد وجهى غارقا بالدموع، فنهضت واغتسلت وأجلست نفسى أمام نفسى فى شرفة الفجر، محاولا تفسير الحلم؟

كانت محطة القطارات تحت بصرى وهدير الوصول والسفر يصل جليا إلى سمعى بينما أنا أَرتحلُ فى داخلى باحثا عن دلالات نفسية فيما أيقظنى ناشجا مبتل الوجه، واكتشفت أننى أعانى تراكما من الضغوط تجاهلها الوعى طويلا لكن اللاوعى ظل منتبها لها، وعندما أوشكت هذه الضغوط على الانفجار قام الطبيب النفسى الداخلى بفتح صمام الحلم ومنافذ الدموع لتنفيس شىء منها، وهى لم تكن إلا بعض ما يعانيه الكُتّاب الذين وضعوا أنفسهم طوعا فى طريق الشوك والجمر حنينا للعدل والحرية وطموحا للحق والخير والجمال، وأظننى منهم، أقسو أحيانا فأندم على قسوتى وإن كانت مُبَرّرة، وأرِقُّ فلا أنجو من سهام طائشة ومسمومة أحيانا، ومن شوارد نابية تندس بين تعليقات القُرّاء التى طلبت رفعها. كما لم ترحم خصوصيتى محبة فياضة تريدنى أن أكون هنا وهنا وهناك، بينما روحى نزّاعة للظل والانفراد بروحى، وبعدد قليل ممن أحبهم وأفتقدهم فى هذه الغبراء. فماذا عن محتوى الحلم؟

على كثرة ما قرأت فى تفسير الأحلام، لم أعد أحفل بدلالات الرموز التى هى فى تغيّر دائم، بل أعتمد على المعنى العام لمكونات الحلم وسياقه كما يرى عالِمى النفسى المفضل «إيريك فروم»، إضافة للبحث عمّا كان يشغل البال فى اليقظة خلال الفترة السابقة مباشرة على الحلم، وهى قاعدة عند فرويد وشيشرون وغيرهما، وكانت بديهية لدى ابن سيرين الذى يحتال ببعض أدواته الآن، بعد تشويهها، مشعوذون كثار يطلون علينا بعيون وأبواز الثعالب عبر الشاشات الصغيرة التى استفحلت.

لم تكن السيارة المدرعة فى الحلم إلا تعبيرا عن رغبة فى تفجير درع فولاذية تحاصر كاتبا تخنقه عقابيل الكتابة فى الشأن العام. وتبعا لقاعدة البحث عمّا كان يشغل البال فى اليقظة التى تسبق الحلم وضح لى أمرٌ محدد، ففى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فى المنصورة تلقيت مكالمة من الولايات المتحدة حملت لى صوت عالِمنا الشاب النابغ عصام حجى، يؤكد أنه لم يدّع أبدا أنه مدير وكالة ناسا، وهو أمر لم أنسبه له مطلقا فى مقالى السابق، كما أكد أنه لا يسعى إلى نجومية وأنه لايحب الظهور الإعلامى. وأشفقت عليه من تكاليف مكالمة دولية طويلة فطلبت منه أن يرسل لى بالإيميل ما يريد قوله لأعمل على نشره فى المكان الذى يراه القائمون على الشروق مناسبا لتصحيح ما يعتقد أنه خطأ، ونمت وأنا أشعر بالندم على بعض القسوة التى ربما أصبته بها فى مقالى، برغم أننى لم أذكر اسمه ولا اسم غيره، وهو نهج أتخذه حين النقد لا تحاشيا للمساءلة، بل نأيا قدر المُستَطاع عن الشخصنة وتضييق النقاش.

وكان أكثر ما يؤلمنى ويُشعرنى بالندم على مدار اليومين السابقين للحلم، هو الألم الذى يمكن أن أكون سببته لوالدة ووالد العالم الشاب الكريمين، ولعل هذا، إضافة لحالة عامر والضغوط المتراكمة داخلى، كان من مسببات البكاء فى الحلم وانفجار الدموع، لهذا سارعت فى الصباح متصلا بالأب الصديق وقلت له إننى سأضمِّن ما يراه الدكتور عصام تصحيحا فى مقالى القادم ورجوته أن يغفر لى إيلامى له وأكدت له أن هدفى كان ولا يزال هو الحرص على موهبة شابة ونابغة مما سمّيته أخطاء وأخطار الإسراف الإعلامى، وكنت أنتظر رسالة الإيميل، وإذا بالرسالة تأتينى غريبة، وهاهى ترجمة لها:

« عزيزى د. مخزنجى

بعد المكالمة التى جرت بيننا، ومناقشة أجريتها مع مختص بالإعلام فى وكالة ناسا، وشخصين غير محددين فى الشروق، وصلنا إلى نتيجة مؤداها أن ما جاء فى مقالتكم كان متعمدا ومبنيا على معلومات تعلم أنت جيدا أنها خاطئة، وأنك للأسف لم تُراجع المحرر لتصحيح هذا الخطأ الجسيم. ويؤسفنى أن مقالتكم تجاهلت أن دور العلماء هو إلهام الأجيال الشابة، خاصة فى هذه الأوقات الصعبة. ومما يؤسف له للغاية أن الشروق بهذه المقالة ستصنع فجوة بينها وبين جمهور القراء الشباب.

ولقد لفت انتباهى أيضا أنك رفضت نشر تصحيح لما ورد بمقالتك وكان مبنيا على هذه المعلومات غير الصحيحة. وبناء على ذلك، سوف نرسل خطابا رسميا لرئيس تحرير «الشروق» ونسخة منه للدكتور صفى الدين خربوش منظم فاعلية مؤتمر الشباب. وإلى أن يُنشَر الاعتذار المكتوب فإننى سأوقف تخاطبى مع «الشروق» حتى أحصل على حقى فى الرد على ماجاء بمقالتكم عبر أى جريدة كبرى أخرى.

مع تحياتى
عصام حجى».

والآن، وبعد هذه الرسالة، أحس أن حدسى لم يكن متجنيا أبدا عندما طالبت من طالبتهم بالتركيز لا التشتيت، كما أننى قطعا لم أعتمد على أية معلومات أعلم بخطئها، فحكاية مدير ناسا خطَّأتها ونفيتها مباشرة عن العالم الشاب فى المقال، برغم أنها كانت متواترة فى أكثر من جريدة وأكثر من موقع على الإنترنت، أما المحتوى الخاص بالمطالبة بقمر صناعى مصرى علمى فهى واردة فى حديث العالم الشاب فى المؤتمر والذى نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط وموقع الحزب الوطنى، وإننى إذا كنت اكتفيت فى مقالى بذكر انفعال الدكتور بهى الدين عرجون لتجاهل وجود القمر العلمى المصرى «مصر سات 1»، فإننى أضيف إليه الآن ألم أربعة وستين عالما شابا جمعهم برنامج الفضاء المصرى وبذلوا جهدا خارقا للتعلم والبحث واكتساب الخبرة وتوطين علوم وتكنولوجيا الفضاء فى مصر، وقطعوا فى ذلك أشواطا محترمة، وهم يعانون الآن أشد المعاناة والإحباط والتطفيش، ولايمكن أن يكون عدم معرفة عالم ناسا الشاب بإنجازهم، أو تجاوزه لهذا الإنجاز، مما يلهمهم بأى تفاؤل.

أما حكاية «الفجوة» التى ستحدثها مقالتى بين «الشروق» وجمهور القراء من الشباب، والتلويح بخطاب «رسمى» من ناسا لرئيس التحرير ورئيس مجلس إدارة الجريدة ونسخة منه للدكتور صفى الدين خربوش، فهى جميعا مما أحب أن أقول حياله، باحتجاج حزين لايخلو من بقايا ودٍ للعاِلم الشاب الذى أتمنى له صادقا النجاة مما لا يعرف، والخير فيما يعرف:

«صباح الخير يا طير».

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .