رسالة الغفران - كمال رمزي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسالة الغفران

نشر فى : الأربعاء 25 فبراير 2015 - 9:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 فبراير 2015 - 9:05 ص

لا أعرف من هو أحمد الكيالى، لكن، بفضل رسالة وثائقية، لا تتجاوز الثلاث دقائق، أرسلها إلى قناة «بى بى سى»، بدت أمامى شخصيته واضحة: إحساس يقظ، إنسانى فى جوهره. نفاذ فى البصر والبصيرة، قدرة على قراءة الوجوه، الحوارى، جدران البيوت. اختيار موفق للنماذج البشرية التى يقدمها، بنزاهة. يترك لها فرصة التعبير عن انفعالاتها وأفكارها، ثم تأتى تعليقاته الموجزة، المكثفة، لتستكمل تفاصيل الصورة، وتبين، بجلاء، الفارق الواسع، العميق، بين التحضر والهمجية، نور القلب وظلامية الروح.

الرسالة تبدأ بداية نموذجية. التعريف بالمكان، اسما وحالة، فمع مسيرة مجاميع فى ممر ضيق، لتقديم واجب العزاء، يعلن المذيع عن اسم القرية المبهم، المنسى، الذى لم يأت له ذكر من قبل «العور»، التى غيب «١٣» من أبنائها غدرا.. طوابير طويلة تصافح أصحاب المحنة معزية، وفورا، ترصد الكاميرا نساء متشحات بالسواد، من أعلى الرءوس إلى أخمص الأقدام، أهالينا. إذا دققت فى ملامحهن ستكتشف تطابق أشكال بعضهن بإحدى قريباتك. لا يمكنك ان تفرق أو تميز بين مسلمة أو قبطية، كلهن، من سلالة موغلة فى القدم، آتية من جوف التاريخ، حضورهن قوى وراسخ.. ولا يفوت آلة التصوير، فى لقطة واحدة، أن تبين وهن جدران البيوت، قبل تقديم بطلة الرسالة، والدة «تواضروس يوسف»، أحد المذبوحين على شاطئ «سرت».

المراسل، يجلس على الأرض، قبالة السيدة المكلومة التى تفاجئه وتفاجئنا بتماسكها، وكلامها. وجهها بالغ الطيبة، بعينين غائرتين، كليلتين، بسبب كثرة البكاء فيما يبدو، حفر الزمن والحزن تجاعيد على جفونها، قسماته شديدة الوضوح.. بصوت صادق، تباغتنا بموقف لا يخطر على بال، يمتزج فيه التسامح بالوعى، فهى، تعلن، بلا تردد، أنها لن «تدعو» ضد القتلة، لكن تصلى من أجل أن يزيح الله، عنهم، ظلام عقولهم، وعتمة قلوب أمثالهم، قبل انتشار مرضهم بين البلاد. الدعاء عليهم، حسب قولها، لن يفيد شيئا.

قبل استكمال ما جاء فى كلامها النورانى، يليق بها، وبنا، الاعتراف بأنها أعظم «أم» ظهرت على شاشة السينما التسجيلية، إلى جانب والدة الشهيد «فتحى عبادة»، فى «أبطال من مصر» لأحمد راشد.. تلك المرأة النحيلة، المؤمنة بقضاء الله، التى هزت الأفئدة، بحديثها عن نجم الأسرة، وأملها، الذى دفع حياته ثمنا لحرية وطنه، إبان حرب أكتوبر.. إنهما أجمل الأمهات.

فيما يشبه «المنولوج» الداخلى، تواصل والدة المغدور كلامها، كأنها تتحدث مع نفسها. تطرح سؤالا، تجيب عنه فورا.. السؤال هو «لماذا سافر؟.. هل من أجل العودة لشراء أرض».. تنفى، وتؤكد أن أمله كان يتمثل فى بناء بيت له، ولأبنائه الثلاثة، ذلك أنه كان يعيش، معهم، فى حجرة واحدة.

تنتقل الرسالة الوثائقية إلى زوجة المغدور. سيدة نحيلة، آثار العناء بادية بوضوح على وجهه الصعيدى، الذى يبدو، بوضوح قسماته، كأنه محفور من الصخر.. تتساند على إحدى قريباتها أو جاراتها، وبصحبة المراسل، تصعد سلالم بلا إفريز. جدران متآكلة، تصل إلى حجرة ضيقة، متزاحمة بالأشياء، تنبض بالحياة: منضدة متآكلة الخشب، عليها كمية من العيش، خبز «البتاو» الرقيق، الذى لا نعرفه نحن، سكان المدينة.. تحت المنضدة، طبلية، وأوعية طعام.. وثمة سرير، هو القطعة الوحيدة، الجذابة، الثمينة، فى المكان.

تستكمل الزوجة حديثها عن آمال زوجها: لم يكن يتمنى إلا أمرا واحدا، أن يستكمل أولاده تعليمهم، وتؤكد أنه كان يردد، باستمرار، استعداده، أن يبيع «هدومه» من أجل تعليمهم.. هكذا، من خلال كلام الزوجة، والأم، تتراءى لنا صورة الضحية، شفافة وواضحة.

لا يفوت المراسل، أحمد الكيلانى، مع مصوره المرهف، الذى لم يكتب اسمه، أن يرصد ضيق أزقة القرية التى لم يكتب اسمها على الخرائط، بما تنوء به من فقر، تنطق به بيوت صغيرة، متداعية، ذات أسقف من خشب وجريد نخيل وخيش.. إنها، من عوامل رحيل أحد الذين فجعنا بذبحهم على يد أوغاد، سيأتى حسابهم حتما، ولو بعد حين، برغم دعاء الأم، للغفران لهم.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات