قصة مركب خوفو! - محمود عبد المنعم القيسونى - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصة مركب خوفو!

نشر فى : الخميس 25 مايو 2023 - 9:00 م | آخر تحديث : الخميس 25 مايو 2023 - 9:00 م

فى مثل هذا اليوم، 26 مايو، من عام 1954 أُكتشف أقدم وأجمل مركب فى تاريخ الإنسانية، ألا وهى مركب خوفو الجنائزية (الملقبة بمركب الشمس)، والتى يبلغ طولها أربعة وأربعين مترا وعرضها ستة أمتار من خشب الأرز الذى استورده الفراعنة من لبنان. مقدمة المركب عبارة عن خشب محفور على هيئة حزمة بردى ترمز إلى مصر السفلى أى شمال مصر، أما نهاية المركب فهى عبارة عن خشب محفور بفن يمثل زهرة اللوتس رمز مصر العليا ــ أى جنوب مصر ــ موضوعة بعناية فائقة وترتيب محكم فى ثلاثة عشر طبقة مقسمة إلى ستمائة وواحد وخمسين جزءا مشكلة من ألف ومائتين وأربعة وعشرين قطعة ــ وهى إحدى الخمسة مراكب التى كان يتم دفنها مع فرعون مصر عند وفاته.
• • •
المرحوم أحمد يوسف، كبير مرمى الآثار بهيئة الآثار، كان رحمه الله يعمل بصفة يومية فى هذه المركب منذ عام 1954 حين كلفه المرحوم الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، بمسئولية ترميم وإخراج أجزاء المركب المفككة من حفرتها الموازية للضلع الجنوبى للهرم الأكبر ثم دراستها والعمل على تركيبها؛ ولازم هذه المركب حتى افتتاح متحفها الخاص عام ١٩٨٢، وتم منحه وسام الجمهورية من الطبقة الثانية. جاء على لسانه ــ رحمه الله ــ أن قصة هذه المركب بدأت عام ١٩٤٨ وكان وقتها مكلفا باستخراج وترميم الأثاث الجنائزى الخاص بالملكة حتب حرس والدة خوفو (المعروض مجموعة منه بالمتحف المصرى) من مقبرة مجاورة لضلع هرم خوفو الشرقى وذلك تحت إشراف عالم المصريات الأمريكى، ريزنر.
زار الملك فاروق بمرافقة ضيفه الملك عبدالعزيز آل سعود هضبة الأهرام بالمركبة الملكية المقطورة بالخيول، واقترح جلالة الملك عبدالعزيز إزالة تل الأتربة الهائل الملاصق للجانب الجنوبى من هرم خوفو، فأصدر الملك فاروق فورا أوامره إلى مدير عام مصلحة الآثار بتنفيذ الملاحظة السامية، وفعلا يذكر الحاج أحمد أنه صدرت الأوامر صباح اليوم التالى باعتماد مبلغ قدره خمسون جنيها لتنفيذ عملية إزالة الأتربة والتى تم خلالها إزالة ما يوازى ستين ألف متر مكعب من الأتربة على فترات متقطعة. تولى مدير منطقة الأهرام الدكتور، محمد زكى نور أمين ومساعده كمال الملاخ مهمة الإشراف على هذه العملية فى السنين الأخيرة. وعند بلوغ مستوى أرضية الهضبة الحجرية ظهرت بقايا سور أثرى كان يحيط بالهرم ويبعد عن قاعدته ثمانية عشر مترا، ولوحظ وجود مجموعتين من المجاديل الحجرية الضخمة أسفل هذا السور والفاصل بينهما ثلاثة أمتار، لذا تم تكليف السيد/ كمال الملاخ عام ١٩٥٤ بتولى مهمة عمل فتحة فى المجموعة الشرقية لاكتشاف ما تخفيه أسفلها، وفعلا تم عمل فتحة وانكشف الستار عن الكنز الأثرى الخشبى أسفلها ــ وهى مركب مفككة مكونة من ألف ومائتين أربع وعشرين قطعة من خشب الأرز اللبنانى طولها ثلاثة وعشرون مترا واثنا عشر مجدافا، طول كل مجداف تسعة أمتار وكم هائل من حبال الحلفا وتشكيلة كبيرة من العقد البحرية المشكلة من هذه الحبال ولفائف من الحصير. بالتالى، سارع كمال الملاخ فورا بإخطار جريدة النيويورك تايمز بخبر الاكتشاف لينتشر الخبر بسرعة جنونية فى وكالات الأنباء العالمية، ولتشتعل مشكلة كبيرة داخل مصلحة الآثار المصرية ظهرت نتيجتها بعد ست سنوات أى عام ١٩٦٠، عندما نشر كتاب كبير الجزء الأول الرسمى المتعلق باكتشاف مركب خوفو وتفاصيلها وعلى غلافه تم طبع أسماء؛ محمد زكى نور ــ زكى إسكندر ــ محمد صلاح عثمان ــ أحمد يوسف ولم يذكر اسم كمال الملاخ.
• • •
تم تسليم الحاج أحمد مهمة ترميم خشب المركب وملحقاتها بعد إخراجها ثم تركيبها لتكون أول مرة فى التاريخ الحديث يتم فيها تجميع وتركيب مركب ملكية فرعونية، وكان ذلك أواخر عام ١٩٥٤. فتم بناء هنجر كبير من الطوب حول الموقع وسقف من المعدن المعرج، وبدأت حياة الحاج أحمد يوسف ترتبط بهذه المركب ارتباطا كاملا لمدة سبعة وعشرين عاما، عاش فيهما بعيدا عن أهله فى مبنى خلف أبو الهول مجاورا لموقع المركب. وكان يزور أسرته يوم الجمعة فقط، وبدأ أولا بدراسة كامل رسومات المراكب الفرعونية المحفورة على جدران المعابد والمقابر على جانبى النيل وما هو مرسوم على أوراق البردى كما درس تفاصيل مراكب النيل اليوم لوجود تشابه بينها وبين ما هو مسجل منذ آلاف السنين. وزار ورش تصنيع وبناء المراكب النيلية على جانبى النيل وبالإسكندرية للاطلاع على أساليب البناء، قام بعد ذلك بتصوير كل طبقة وترقيم قطعها ورسمها بدقة مع تسجيل أبعادها، ورفعها بعناية فائقة ووضعها بترتيب على أرضية الهنجر، ثم الانتقال لتنفيذ نفس الخطوات على الطبقة التالية وانتهى من إخراج كامل أجزاء المركب الـ ١٢٢٤ فى يونيه من عام ١٩٥٧ لتصبح حفرة دفنها خالية تماما لأول مرة منذ ٤٥٠٠ سنة (طولها ٣٢,٥ متر وعرضها ٥ أمتار).
ذكر الحاج أحمد والذى ارتبطت بصداقته حوالى ربع قرن ــ أنه للأسف قامت هيئة الآثار بطبع الجزء الأول والخاص بدراسة هذا الأثر وتفاصيله الهندسية مع ذكر أن باقى المعلومات سترد فى الجزء الثانى من هذا التسجيل التاريخى، وكان ذلك عام ١٩٦٠. ولم يتم طبع الجزء الثانى حتى اليوم، لكن واجب الإشارة إلى قيام باحثة آثار وصحفية أمريكية عام ١٩٨٠ السيدة/ نانسى جينكنز بعد دراسة علمية وافية وتصوير متكامل بالتنسيق التام مع الحاج أحمد يوسف بطبع كتاب ممتاز (THE BOAT BENEATH THE PYRAMID).
يشمل الكتاب كامل تفاصيل تاريخ المركب والاكتشاف والدراسة والترميم والتركيب ليكون السبب فى استكمال باقى تفاصيل هذا الكشف العظيم.. وأكثر ما أحزن الحاج أحمد أنه اضطر لفك وتركيب هذه المركب الخشبية التاريخية القديمة، والتى تعدى عمرها أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة سنة، خمس مرات بسبب تغيير شكل المتحف المحيط بها بالإضافة للاعتماد على مهندس أجنبى صمم المتحف الأخير للمركب دون دراسة مناخ القطاع فقام بتغطية كامل جدران وسقف المتحف بالزجاج ليسمح لمن هم خارج المتحف برؤية المركب بالكامل، ما كان له توابع كارثية خلال موسم العواصف الخمسينية. إذ تحطمت عدت ألواح من الزجاج وتسربت الرمال لجسم المركب مع حرارة الجو ما أثر تأثيرا سلبيا مؤسفا على خاماتها حيث تفتت أجزاء منها والتوت معظم المجاديف، ما دفع مصلحة الآثار المصرية لإزالة كامل الألواح الزجاجية وتركيب ألواح من الخشب المعالج السميك الذى يتحمل المناخ الحار وتركيب منظومة تكييف هواء وأجهزة قياس الرطوبة داخل المتحف.. وذكر لى أنه كرجل تعامل وفحص بيديه بشكل مباشر ولسنين طويلة أخشاب المركب أن هناك دليلا علميا مؤكدا أن هذه المركب استخدمت فعلا فى مراسم جنازة خوفو وأنها أبحرت على مياه النيل.
وهذا الدليل هو أنه عندما تم إنزال المركب إلى مياه النيل وقتها تمدد الخشب وانكمشت حبال الحلفا وهذه ظاهرة طبيعية مما أدى إلى طبع بصمات حبال ربط أجزاء المركب على الخشب بشكل غائر وواضح جدا، فإذا كانت هذه المركب رمزية لم تستخدم عمليا فى مراسم الجنازة فمستحيل الطبع الغائر والواضح للحبال على خشب صلب مثل خشب الأرز، وقد تم نشر هذا الإثبات بالصور فى عدة كتب وثائقية. تم «جلفطة» هذه المركب أيضا بالأسلوب الفرعونى، و«الجلفطة» تعنى عملية سد كل الثغرات بجسم المركب لمنع تسرب المياه إلى داخلها باستخدام آلاف القطع الخشبية الصغيرة، وهى التى ظهر عليها أيضا بوضوح بصمات تفاصيل ألواح الخشب التى تم دقها بين فواصلها بسبب ملامستها للماء، كما ذكر لى أن الفراعنة قاموا بترقيم وتعليم الألواح والأجزاء بأسلوب يسهل عملية إعادة التركيب والتربيط فى المستقبل. تم تجميع وتثبيت هيكل هذه المركب عن طريق حياكتها من الداخل بحبال الحلفا، ولم يستخدم فيها أسلوب تعشيق الخشب ولا المسامير المعدنية. فى عام ٢٠٢١، تم نقل المركب إلى موقع ممتاز بالمتحف الكبير.. الحمد لله.
رحم الله الحاج أحمد يوسف لقد شرفنى بصداقته.
المستشار السابق لوزير السياحة ووزيرة البيئة
الاقتباس
فى مثل هذا اليوم، 26 مايو، من عام 1954 أُكتشف أقدم وأجمل مركبا فى تاريخ الإنسانية ألا وهى مركب خوفو الجنائزية (الملقبة بمركب الشمس)، والتى يبلغ طولها أربعة وأربعين مترا وعرضها ستة أمتار من خشب الأرز الذى استورده الفراعنة من لبنان.

محمود عبد المنعم القيسونى المستشار السابق لوزير السياحة ووزيرة البيئة
التعليقات