ست حكايات عن أمى - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ست حكايات عن أمى

نشر فى : السبت 26 مارس 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 26 مارس 2022 - 8:10 م

(1)
أمى كانت لديها هواية جمع الأشياء الصغيرة المتناثرة فى أركان البيت، وكانت تمتلك علبة ملبس صغيرة تجد فيها كل شىء تتخيله: أزرار ملونة، عملات قديمة صغيرة، دبابيس، إبر وخيوط من كل شكل وصنف.
سعادتها أن تستفيد من هذه الأشياء، كأن تعثر فى علبتها على زرار نادر قديم، يصلح بديلا عن زرار مقطوع فى قميص جديد، هنا تصبح فرحتها بالدنيا، وتتأكد فكرتها، بأن الأشياء الصغيرة مهمة مثل الكبيرة.
تنبهتُ أخيرا إلى أنى أفعل مثلها بالضبط، أجمعُ لا شعوريا مثل هذه الأشياء، لو وجدتها ملقاة فى البيت هنا أو هناك، وتنبهت إلى شىء أعمق، هو أننى مفتون بتجميع الأشياء الصغيرة المختزنة فى كتاباتى، يمكن القول بأننى أحتفظ فى ذاكرتى بقصاصات مركونة ومختزنة، حفظتها لا شعوريا أيضا، وظلت مركونة فى علبة ما فى الذاكرة، تظل فى مكانها حتى يتم توظيفها فى سياق مقال واحد، هنا تكون فرحتى بالضبط مثل فرحة أمى باستخدام أزرارها المحفوظة فى علبة الملبس الجميلة.

(2)
سأكتب يوما عن مصطلحاتٍ وأمثالٍ وحواديتٍ كانت ترددها أمى، ولم أسمعها بعد ذلك إلا نادرا، كل لفظ أو مصطلح حكاية لوحده.
كانت تقول مثلا: «اللى يمشى مع الهف يتلف، ويبقى فى قول قايل».
«الهف» أى الشخص «الهفأ» أو التافه.
وكانت أمى تقول لى: «ما تزورش حد برو عتب والسلام، زور الناس بقلبك، وعشان بتحبهم، وعايز تقعد معاهم، مش دقيقة وخلاص».
«برو عتب»: مصطلح قديم لا يستخدم الآن تقريبا، «برو» اسم لفعل هو «يبرى»، ومنه «براية» القلم الرصاص، ومنه أيضا «بروة» الصابون، و«العتب» هو درجات السلم، والعتبة هى أول مدخل المنزل، أى أن المعنى الحرفى للتعبير هو «نحت أقدام الزوار لدرج السلم».
أما المعنى المقصود فهو أن زيارة الناس بدون نفس، لا تؤثر إلا فى نحت درجات السلم، ولا قيمة لها فى رصيد العلاقات الإنسانية، أثرها مادى يلائم طبيعتها الجافة، مجرد إثبات حالة، وترك علامة.

(3)
يوم عمل أمى للمحشى يبدو استثنائيا، عندما كنا فى شبرا، كانت تنزل بنفسها السوق، تشترى كل شىء حتى اللحوم، ترتدى جيبة سوداء وتوينز زيتى بديع وحذاء بسيطا، التوينز يشبه البلوفر الخفيف، كانت ترتديه فاتن حمامة كثيرا فى أفلام الأبيض والأسود، أمى هى التى كانت تختار «الكرنبة» بكل مستلزمات الخلطة من أرز وطماطم وبقدونس وشبت، ثم تبدأ فى البيت المرحلة الثانية من عمل المحشى.
أتابع صبرها ودقتها فى كل خطوة: تقطيع الكرنبة، تفكيك الأوراق ثم سلقها، عمل الخلطة فى طبق كبير، ثم نقل كل هذه الأشياء إلى الصالة، تفرش سجادة صغيرة، ثم تضع المستلزمات كلها على صينية نحاسية كبيرة، كتبت على حوافها عبارة «بالشفا والعافية»، أتسلل لأجلس بجوارها، كنت لم أزل دون سن المدرسة، تتربع ثم تبدأ فى العمل، ولكنها تردد فى البداية تعويذتها الجميلة:
«يا حبق يا نبق / خلِى الخُلطة قد الورق».
بصبرٍ ودأب تلف كل ورقة، بعد أن تضع فيها الخلطة المدهشة، ثم تنقل الحلة الكبيرة للتسوية على البوتاجاز، نأكل يومها أشهى محشى مع ليمون أو جزر أو زيتون قامت بتخليله فى برطماناتٍ كبيرة، لكن أشهى أجزاء المحشى هى تلك التى تتبقى فى قاع الحلَة، ننتظرها بفارغ الصبر، تضعها فى طبق خاص، ساخنة ومحروقة ولذيذة.
لم يحدث أبدا أن كانت خلطة ماما أقل من الورق.

(4)
كانت أمى خياطة ماهرة، قبل الشتاء تقوم بتفصيل بيجاماتنا كلها، وعلى أحدث موضة، يمكنها أن تصنع أيضا بلوفرات صوف.
وَرثِتْ عن جدتى «أمها» ماكينة سنجر عتيقة، وكان دورى الدائم لضْمَ الإبرة، كنت أفعلها ببراعة، فى الماكينة شىء اسمه «مكوك»، أدهشنى جدا وقتها أن يقال إن كيسنجر وزير خارجية أمريكا يقوم بجولاتٍ مكوكية بين مصر وإسرائيل، تساءلت: ما علاقة كيسنجر بالمكوك فى ماكينة ماما؟!
لا تترك أمى قصاصات التفصيل بدون استخدام، تخيطها معا قصاصة وراء قصاصة، وتصنع منها كرات ضخمة ملونة، ثم ترسلها إلى صانع السجاجيد، ينسج القصاصات فتعود إلينا الكرة سجادة ملونة بألوان القصاقيص.
كانت أمى تعانى لأنى كنت أعتقد أنها تصنع لى كرة ضخمة لكى ألعب بها، تجرى خلفى لتستعيد الكرة القماشية الضخمة حتى لا أفرتكها ركلا.
أحنُ إلى لضمْ الخيط فى ماكينة أمى، إلى سجادتها الملونة، إلى بيجامة صنعتها لى قبل الشتاء.

(5)
فَرحتْ أمى جدا لما أهديتها كتابا فى السبعينيات بعنوان «أكلات شهية» من تأليف أبلة نظيرة، أخبرتنى أمى أيضا أن جدى (والدها) أحضر لها ولأخواتها الأربعة طباخا فى البيت، يعلمهن فنون الطهى والإتيكيت، «كورس» مكثف فى الطهى من الشيف شربينى ماركة الأربعينيات، وطبعا كانت أمى تواظب على متابعة فقرات الطهى فى برامج المرأة التليفزيونية، تطلب منى أن أكتب لها المقادير حتى تركز مع طريقة الطهى، أما الأكلات الصعيدية، والخبيز وعمل الفطير فى الفرن، وعمل الأبرمة الشهية، فقد حصلت والدتى فيها على «كورس» مكثف من عماتى الصعيديات.

(6)
حواديت قبل النوم التى تحكيها أمى قصيرة جدا، وقليلة أيضا، ولكن كانت لديها قدرة مذهلة على إعادتها بإضافاتٍ مختلفة فى كل مرة. مغزى الحدوتة الأخلاقى، أو «المورال»، كان واضحا، ولكن جاذبية الحدوتة فى سردها وإيقاعها، فى استخدام أمى للغة بسيطة جدا، وكأنها لغة أطفال، ثم فى أدائها للغناء، وفى تلوين الأصوات وفقا للشخصيات، وللمواقف المؤثرة.. تعلمتُ الدراما من حكايات أمى فى طفولتى.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات