يوليو تحت النار فى عيدها الستين - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 2:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوليو تحت النار فى عيدها الستين

نشر فى : الخميس 26 يوليه 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 26 يوليه 2012 - 8:00 ص

أذكر أننى كتبت منذ سنتين مقالا بعنوان «ثورة يوليو تقترب من عامها الستين» كانت فكرته الأساسية أنه بينما يرتبط سن الستين فى ذهننا بالإحالة إلى المعاش فإن برنامج يوليو مازال صالحا للمستقبل، وعندما تفجرت ثورة يناير بإرادة شعبية رفعت شعارات قريبة للغاية فى جوهرها من مبادئ يوليو. لكننا الآن وبمناسبة مرور ستين عاما على ثورة يوليو نسمع ونرى ونقرأ انتقادات لها معظمها أقرب إلى الهزل تريد أن تهيل التراب إلى الأبد عليها كى لا تقوم لها قائمة بعد الآن، بل إن ثمة من حاول أن يُنَظر لهذا المنطق السقيم بالقول بأن الثورات تجب بعضها، وإن يناير قد طوت صفحة يوليو، وهو نهج غريب يفترض أن الشعوب بلا ذاكرة وطنية أو خبرة تاريخية تفيدها فى حاضرها ومستقبلها. وإذا كان من الطبيعى أن تتعرض يوليو للنيران من جماعة «الإخوان المسلمين» بسبب ما كان بينهما من صراع مرير، فإن علامات استفهام كثيرة تثور بخصوص قوى يفترض أنها ثورية لا ترى فى يوليو إلا أنها كانت حكما للعسكر، وتريد أن تجهض الاحتفال بها بالمزايدة على دم الشهداء، وعلامات الاستفهام هذه شتى تتعلق بمستوى الوعى بالسياسة والتاريخ وبطبيعة الدور الذى تقوم به هذه القوى حاليا، ولحسن الحظ فإن الرد عليها جاء من قوى ثورية حقيقية تستنكر هذا الهجوم على يوليو وتفنده.

 

ونصيحتى لمن لا يرى فى يوليو إلا حكما للعسكر أن يقرأ فى تجارب الحكم العسكرى فى أمريكا اللاتينية بالذات ليرى إلا وجها للعلاقة بين يوليو والعسكر إلا فى كون النخبة التى فجرتها من العسكريين، وكان طبيعيا أن يضطلع معظم المنتمين إليها بأدوار سياسية لاحقا، لكن المهم أن الشعب أعطى تأييده للثورة منذ اللحظة الأولى إحساسا بأنها تعبر عن مطالبه، ثم أصبح هذا التأييد غلابا بمجرد تبلور مشروع يوليو، وليقرأ الذين يسرفون بمناسبة ودون مناسبة فى الحديث عن حكم العسكر تجربة الحكم العسكرى لبينوشيه فى شيلى الذى انقلب فى سبعينيات القرن الماضى على رئيسها المنتخب سلفادور الليندى، وسوف يجد هؤلاء أن حكم العسكر الحقيقى كان يقصف بالطائرات مؤيدى الثورة والمبانى التى يحتمون بها بما فى ذلك مقر الرئاسة، وقد يشاهدون فى بعض الكتب صورا لأعداد يعتد بها من المواطنين الذين قتلتهم الطائرات، وسوف يعرفون بالتأكيد أن المعارض لهذا الحكم لم يكن يساوى إلا رصاصة، وأن سعداء الحظ من عناصر المعارضة كان نصيبهم الاحتجاز فى الملاعب الرياضية لكثرة من وفد على السجون منهم، وقد يطلعون على تجارب أخرى ربما تكون أقل بشاعة، لكنها كافية لإثبات الهزل فى الادعاء بأن يوليو لم تكن سوى حكم للعسكر.

 

●●●

 

هل ينسى هؤلاء الكرامة الوطنية الشامخة التى أسست لها ثورة يوليو بقيادة زعيمها التاريخى؟ أتراهم ينسون أيضا كيف رد على محاولة الولايات المتحدة تطويعه فى عام 1956 بتأميم شركة قناة السويس؟ ولعلهم ينسون كذلك التأييد الغلاب من قبل الشعب لهذه الخطوة وتداعياتها، إلى درجة احتشاد هذه الجماهير الغفيرة على الضفة الغربية لقناة السويس، وهى تتابع دخول أول دفعة من السفن بإرشاد مصرى بعد أن نفذ المرشدون الأجانب ــ عدا اليونانيين منهم ــ أوامر دولهم بالانسحاب من العمل فى القناة حتى يثبتوا للعالم أن مصر غير قادرة على إدارة القناة. يصف المهندس عبدالحميد أبوبكر أحد رجالات مصر التاريخيين هذه اللحظات فى مذكراته فيقول إن الهتافات الهادرة للجماهير كانت تغطى على كل ما عداها، وإنه خيل إليه أن هذه الجماهير تود لو شاركت فى دفع هذه السفن بأيديها حتى تنجح مصر فى هذا الاختبار. كم يأسى المرء لمن لا يعرف تاريخ بلده ثم يتجرأ عليه بهذه السطحية.

 

يقول أحدهم إن يوليو لم تنجح فى تحقيق العدالة الاجتماعية بدليل أننا مازلنا نطلبها حتى الآن، ومن النادر أن يقرأ المرء كلاما أكثر سخفا. ينسى صاحبنا أن ثورة يوليو بمعنى السياسات والممارسات قد انتهت منذ وفاة عبدالناصر فى 1970، وأن عملية تخريب متعمدة قد حدثت بعد ذلك تحت حكم السادات ومبارك، فصفيت القاعدة الصناعية التى بناها الشعب المصرى فى ظل يوليو، وتم بيعها فى واحدة من أكبر عمليات النهب فى تاريخ مصر، وعاد الاستقطاب الطبقى كما كان عليه قبل يوليو بين قلة قليلة تملك كل شىء تقريبا وغالبية المجتمع التى ضاعت حقوقها وتدنى مستوى معيشتها على نحو كارثى إذا قورن بما كان عليه إبان حقبة يوليو. ومع ذلك فإن ثمة إنجازات بقيت شامخة لعل أبرزها مشروع السد العالى الذى جسد بناؤه إرادة شعب، وتصدى بنفسه للرد على الحجج التافهة التى استخدمت فى انتقاده. يتحدثون عن استعادة الدور المصرى وينسون أو يتناسون أن يوليو قد رفعت هذا الدور إلى عنان السماء. كانت الرؤية واضحة منذ الوهلة الأولى، وجاء التطبيق متسقا معها وأصبحت مصر صاحبة الدور القيادى فى الوطن العربى وأفريقيا بل وامتد تأثيرها إلى أمريكا اللاتينية، ناهيك عن مكانتها العالمية بفضل دورها فى تأسيس حركة عدم الانحياز وقيادتها.

 

يبقى أن المطعن الرئيس ليوليو هو إخفاقها فى بناء ديمقراطية حقيقية والانتهاكات التى حدثت فى ظلها لحقوق الإنسان، ولا يمكن لأحد أن يدافع عن يوليو فى هذه المسألة، وإن كان من الإنصاف أن نذكر أن الديمقراطية الليبرالية لم تكن من أولويات بلدان العالم الثالث فى تلك المرحلة، وأن عبدالناصر لم يدع يوما أنه ليبرالى وإنما ركز على البعد الاجتماعى للديمقراطية، وهو بعد ما زال غائبا حتى الآن، وإلا لما اشتكينا من التأثير على الناخبين بالمدفوعات النقدية والعينية، وإن كان هذا كله لا يبرر إخفاق يوليو فى بناء ديمقراطية حقيقية. فى المقابل يكره المرء أن يذكر ثورة يناير بسوء، لكن السوء يأتى من القوى التى ركبت موجتها، والتى تملك برنامجا لا علاقة له بالضرورة بأهداف يناير، بالإضافة إلى أننا لم نسمع بعد مضى قرابة عام ونصف العام على نجاح ثورة يناير فى إزاحة رأس النظام عن مشروع أو رؤية متكاملة لبرنامج الثورة، فمازال جهدنا الاقتصادى يسعى فى الطريق نفسها التى اتبعها مبارك، ومازال هدف العدالة الاجتماعية وآليات تحقيقه غائبا. وعلى الرغم من التحسن الذى طرأ على سياسة مصر الخارجية بعد يناير، والذى أيقظ الآمال بعودة الدور المصرى فإن هذا التحسن أقرب إلى إصلاح سياسة مبارك الخارجية وتخليصها من بعض عناصرها الفجة، ولا علاقة له حتى الآن بعودة الدور المصرى.

 

●●●

 

مهلا خصوم يوليو فإن ذاكرة التاريخ لا تنسى، ولتصرفوا جهدكم فى إنقاذ ثورة يناير إن كنتم حقا من أنصارها، وليس فى محاولة عبثية لإلغاء مرحلة مجيدة من تاريخ مصر، ولتذكروا دائما أن الزبد يذهب جفاء، لكن ما ينفع الناس يمكث فى الأرض. 

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية