«نشيج الدودوك».. السفر إلى الذاكرة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 11:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نشيج الدودوك».. السفر إلى الذاكرة

نشر فى : السبت 26 أغسطس 2023 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 26 أغسطس 2023 - 9:00 م
قرأت هذا النص الآسر بينما كنت فى حوار طويل مع صديق عن ألوان السير الذاتية، وعن لغز الذاكرة المراوغ، وعن تلك المسافة بين أفكار ووقائع الماضى، وبين المعالجة الفنية، وطريقة الكتابة، وكنا نتحاور أيضا عن كتابة الذات، وراء أقنعة الكتابة عن الآخر، وعن العالم.
النص الصادر عن دار الشروق بعنوان «نشيج الدودوك»، لمؤلفه الروائى الأردنى جلال برجس، تقاطع بطريقة ما مع تلك الحوارات التى شغلتنى، فهو فى جوهره سيرة ذاتية، ولكنه يوجد حلولا فنية سردية، لتمرير حكايات الطفولة والشباب، عبر رحلات ثلاث إلى الجزائر وبريطانيا وأرمينيا، وعبر كتب ثلاثة من تأليف ألبير كامى، والطيب صالح، ورسول حمزاتوف.
ولكننا نكتشف أن هذا البناء المركب، الذى كتب بلغة شاعرية، حافلة بالمجازات والصور، يخرج من الذات ليعود إليها. كل شىء يرى من خلال ذاكرة الكاتب، وما العالم كله، والكتب المقروءة، سوى أبواب تفتح على الذات، ومرايا تنعكس عليها كل التجارب والجراح.
أعجبتنى هذه الحيلة الفنية، التى يمكن اعتبارها قناعا ضروريا للبوح، انطلاقا من فكرتين أساسيتين تترددان بقوة:
الأولى تنظر للكتابة باعتبارها هروبا من ضجيج صوت جوانى لا يفارق الكاتب، حتى يكتشف سره فى الفصل الأخير، والثانية ترى أن بديل الكتابة هو الموت أو الجنون، فكأنها العلاج والدواء، وكأن الذات لا وجود لها بدون الكتابة.
يسافر الكاتب إلى مؤتمر أدبى، أو لحضور معرض للكتاب، أو فى برنامج تدريبى، وتتسلل فقرات من رواية «الغريب» لألبير كامى إلى أجواء رحلة الجزائر، وفقرات من «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى تفاصيل رحلة بريطانيا، وأشعار رسول حمزاتوف إلى برنامج رحلة أرمينيا، ولكن كل شىء يعيدنا من جديد إلى العائلة والأسرة، إلى حنينا قرية الميلاد، وإلى مادبا مدينة الدراسة، وإلى عمان بلد الانطلاق الأدبى.
الذاكرة هى المنظار الذى يرى به الكاتب العالم، والسفر إلى الداخل، حيث الأحداث التى حفرت عميقا فى العقل والقلب، وحيث الطريق الوعر والصعب والشاق، الذى بدأ واستمر، بصحبة القلم والألم. ظنى أن سفر الطائرات، وسفر الكتب، قد خفف كثيرا من وطأة سفر الذاكرة، كما حقق فنيا بعض الاستراحة لالتقاط الأنفاس.
ورغم أن الرحلات الثلاث منفصلة، وفى سياقات مختلفة، إلا تيمة «السفر» زمانا ومكانا، فى المدن وفى الذاكرة المراوغة، وحضور ذات الكاتب القلقة، والتى يرافقها صوت جوانى صاخب، تهرب منه إلى القراءة أو الكتابة، وكشف مصدر هذا الصوت فى الفصل الأخير، كل ذلك صنع خيوطا بين الفصول.
واختيار كتاب فى كل رحلة، لم يكن من باب قتل الوقت فحسب، ولكن باعتبار تلك الكتب دالة أيضا على ذات كاتبها وأفكاره، وباعتبار أبطال الروايات مثل ميرسو فى «الغريب»، ومصطفى سعيد فى «موسم الهجرة إلى الشمال»، أقنعة لنقل أفكار الكاتب نفسه. فالنصوص هى أصحابها، وتحية الكتابة تمتد إلى هذه النصوص المختارة، بمثل ما يمكن أن نعتبر «نشيج الدودوك» قصيدة حب للكتابة، باعتبارها الملجأ والملاذ والوجود.
فى تحليل السيرة، بعيدا عن أقنعتها، لا يتردد جلال برجس فى الاعتراف بالحياة الفقيرة الصعبة التى عاشها، وفى إبراز ثنائية الأصل البدوى والبيئة الريفية. يمتلك كذلك حنينا عارما لبساطة القرية، التى تغيرت وتحولت إلى بنايات من الأسمنت، ويتحدث عن شخصيات بعينها أثرت فى نظرته للحياة:
الجدة المعمرة صاحبة أولى الحكايات، وهى صانعة للحياة، والصابرة دوما على مواجهة الموت، الذى أخذ يختطف أولادها واحدا تلو الآخر، والجد المؤسس الذى يستقبل أول أحفاده، ويأخذه فى أول رحلة إلى المدينة، والأب الجندى الغائب معظم الوقت، ولكنه يعيد الفرحة إلى البيت عند عودته، والأم التى لا تقرأ ولا تكتب، فيجتهد الطفل جلال لكى يقرأ لها القرآن، والعم الشيوعى المثقف، الطبيب الدارس فى رومانيا، الذى يفتح أمام جلال أبواب القراءة والسؤال.
فى وقت مبكر يدرك الطفل أن العالم داخل الكتب، مثلما هو فى البيئة المحيطة به، يدرك أن أول كتاب، وأول رواية، وأول شخصية روائية تعلق بها، ليسوا أقل تأثيرا من أول قبلة، وأول امرأة عارية شاهدها، فظل طيفها يطارده، وظل يبحث عنها فى وجوه النساء. لذلك تتقاطع أزميرالدا بطلة رواية «البؤساء»، مع سيدة القرية العارية، وتبدو كتابة العالم، والقراءة عنه، تماما مثل مشاهدته وتأمله.
وبينما أراد الأب أن يكون الابن ضابطا، أراد الابن أن يكون طبيبا، وشاءت الظروف أن يدرس هندسة الطيران، وأن يصادق الصحراء، متنقلا بين المطارات، وهناك اكتشف الكتابة، وترسخت فكرة الهروب إلى الورق.
صارت اليوميات المكتوبة ملاذا للذات غير المتحققة، وأصبح الشعر بديل الطائرة الورقية المفقودة، ثم أصبحت الرواية بساطا سحريا، تحمل الذات إلى عوالم أخرى، فتحيا أكثر من حياة، وتقول ما تريد عبر أقنعة الآخر.
تموت الشخصيات المؤثرة، وتعبس الدنيا، وتضيق الأحوال، ثم تنفرج، يحدث التحول من الهامش إلى المتن، ومن التجاهل إلى الشهرة، ومن شهادات التقدير إلى الجوائز الكبرى، ولكن أمرا واحدا لم يتغير، إنه ذلك الصخب الجوانى، الذى لا تسيطر عليه إلا الكتابة.
هذا الصخب يشبه بكاء المزمار الأرمينى المسمى «الدودوك»، والذى يبعث الشجن، ويستدعى الذكريات. وهو ليس بكاء بصوت عال مسموع، ولكنه نشيج يتردد داخل الصدر.
نحن فى الحقيقة لا نكتب سوى أنفسنا، ولا نرى العالم إلا من خلال أبواب الذاكرة، ولذلك يبدو فعل الكتابة ضرورة لسد هذه الفجوة الواسعة فى الداخل. حتى الكتابة عن الآخر، ليست إلا نوعا من استدعاء ذاكرة مؤثرة أخرى: لا تستطيع أن تتخلص من صورة شحاذ مشوه، أو وراق بائس، فتكتبهما.
وقد تقفز صورة العم من الذاكرة، فتأخذ مكانها فى رواية «دفاتر الوراق». وتصبح «نشيج الدودوك» طبطبة جديدة على الذات من يد الكتابة الحانية.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات