من مفكرتى فى عام «القرد» - داليا سعودي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من مفكرتى فى عام «القرد»

نشر فى : الإثنين 26 ديسمبر 2016 - 10:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 ديسمبر 2016 - 11:48 ص

كانت سنة كبيسة حقيقة ومجازا، توافقت مع عام «القرد» فى التقويم الصينى، وقد احتفظتُ منها فى مفكرتى ببضع شذرات متفرقات، أعرض بعضها هنا فى غير ترابط، ففى تشظى المعنى ما يوافق اغتراب المنطق ويناسب سيريالية الأحداث.

•••

يناير
رمقنى بنظرة حادة قبل أن يُعرض عنى مواجها بقية الحضور، وجعل يتلو بضع فقرات من رواية «معسكر القديسين»، الأثيرة لدى اليمين المتطرف. مئات من الزوارق المتهالكة المحملة بلاجئين قادمين من جنوب المتوسط، ترسو جميعها فى ليلة قمراء عند سواحل فرنسا. وإذ رحبت السلطات باستقبالهم، تنبرى ثلة من المدافعين عن الهوية الغربية البيضاء إلى اصطياد «الهمج» الوافدين ببنادقهم. تلك هى باختصار الرواية الكابوسية التى يعرضها علينا الليلة فرانسوا فى ملتقى أدبى شهرى كنتُ فيه العربية الوحيدة الحاضرة.
خرجتُ ليلتها دامعة العينين، أشعر بانكسار من غالب البحر، وصارع الموت، وتجرع الفقد، هاربا من القمع والقتل والدمار، ليواجه بنادق العنصرية.

•••

فبراير
برحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل ثمة عصر كامل يرحل معه. درجنا على مقولة إن المفكر يرحل بجسده ويبقى فكره حيا على مر العصور. لكن ما يبديه عصرنا من عدمية قيمية وانحطاط فى أنساق الأفكار وتقزم فى أقدار الرجال لا ينبئ بأننا سنَرِدُ إرثَ الأستاذ من دون تحسر على ما فات. ولعل الأجيال القادمة ستقرأه كما نقرأ الجبرتى، مؤرخ الفرنسيس والغز والأرناؤوط فى زمن محمد على باشا، أو لعلنا سنطالع منجزه المترامى كما طالعتُ فى هذا الصيف معرضَ «المدن الغارقة» بالمتحف البريطانى، حيث نفائس حضارتنا المصرية القديمة معروضة فى أجواء تسبح بين الحقيقة والخيال. سنقرأه وسنستمر فى تقديره لا كمفسر لمسببات تآكل عالمنا بل كشاهد على عصر تولى. سنقرأه وفى أسماعنا تتجاوب أصداء كلمات القديس أوغسطين «العالم مثل إنسان: يولد، ويكبر، ويموت». نعم، سنقرأ الأستاذ كشاهد حجرى مهيب على قبر ذلك الزمان الذى كان.

•••

مارس
الحزن البادى على الوجوه لا تُخطؤه عين، رغم أنه قد مر على التفجيرات الإرهابية التى استهدفت مطار بروكسل قرابة ثلاثة أشهر. تصورتُ أن الإجراءات الأمنية ستكون استثنائية. لكن الإضافة الوحيدة كانت هؤلاء الشباب والشابات المرحبون بنا فى صالة الوصول بابتسامة نضرة. وزعوا علينا أكياس الهدايا المليئة بالشوكولاتة البلجيكية اللذيذة واشتراكات المترو وبرامج العروض الثقافية. وأجمل من ذلك كله بطاقة مكتوب عليها: «نحن نحب السلام فلكم منا سلام».

•••

أبريل
قبل قرابة عام، قدمت محاضرة عن فيلم «الأرض» ليوسف شاهين، بينت فيها أن الفلاح المصرى لا يتخلى عن أرضه أبدا، وأنه قد يفديها بحياته على غرار العم محمد أبو سويلم الذى جسده العبقرى محمود المليجى. فحب هذه الأرض منقوش فى جيناتنا الوراثية. فى هذا الإطار المحدِد لجذور الشخصية المصرية يتراءى لى الرفض الشعبى العارم لفكرة التفريط فى جزيرتى تيران وصنافير رفضا نبيلا، سيسجله التاريخ كصفحة ناصعة من النضال الوطنى، لا ينبغى أن تعكر صفو العلاقة التاريخية بين الشعبين المصرى والسعودى.

•••

مايو
الوضع فى حلب يفوق خبراتى الإدراكية، ويتخطى قدراتى التعبيرية. هو الفزع إذ يسفر عن وجهه المشوه، والرحمة إذ تولى مدبرة، والبشر فى اختلاجاتهم اليائسة بين الحديد والنار. سأعود إلى هذه الصفحة من مدونتى لإضافة صورة الطفل عمران، الناجى من تحت الركام، الجالس وحيدا فى ذهول يمسح دماءَه ببطن يده البضة. وسأعود إليها حين يتم إخلاء حلب، الذى يسميه البعض «تحريرا». وأظل أطالع صور مسيرات التهجير التى تشبه مسيرات الموت النازية. لكننى سأظل على عجزى عن التعبير، حتى كانت محاضرة فى الترجمة السياسية، طرحتُ فيها نصا عنوانه بالفرنسية «آلام الشعب السورى»، فإذا بطالبة تترجمه: الشعب السورى «يحمل صليبه». شعبٌ بأكمله ألبسوه تاج الشوك وأرسلوه إلى أعلى جبل جلجوثة. والعالم بأسره غسل يديه من دمه.

•••

يونيو
«فى بعض الأحيان، لا يلزم الشر لكى ينتصر سوى أن يمتنع الخير عن القيام بدوره. «صاحبة العبارة، النائبة البريطانية چو كوكس، كانت من الأصوات الداعمة لإحلال السلام فى سوريا والمساعدة فى حل أزمة اللاجئين، وكانت من مؤيدى بقاء بلادها ضمن الاتحاد الأوروبى. لكنها قُتلت على يد قومى متعصب هتف قبل أن يطعنها: «بريطانيا أولا»! كأنك يا فرانسوا مازلت تتلو مقطعا من ديستوبيا «معسكر القديسين». أو لعل هذا هو زمن الترامبيين، ممن يأخذون شعوبهم إلى خندق القومية الفاشية العمياء باسم الوطنية، فيوردونهم موارد الضياع بعد أن يقطعوا كل وشيجة بينهم وبين الإنسانية.

•••

يوليو
سجل أنا عربى
أنا اسم بلا لقبِ
صبورٌ فى بلاد كل ما فيها يعيش بفورة الغضب
جذورى...
قبل ميلاد الزمان رست
و قبل تفتح الحقبِ

«بطاقة هوية»، القصيدة الأشهر فى بداياته، لم يكن محمود درويش يحب أن يلقيها فى أمسياته المقامة بالدول العربية. ففد كان يرى أنه لا حاجة به لتذكير العرب بهويتهم. فقوة أبياته كانت أشبه بصفعة تستهدف المحتل الصهيونى بالأساس. لكنه لو كان بيننا اليوم لغير رأيه. وهو يرى إمارات السلام الدافئ وهى تتسرب إلى الدبلوماسية العربية كل يوم. أراه واقفا ينشدها بقامته السامقة وبصوته الجهورى فى عزاء شمعون بيريز لكى يكفكف الحاضرون العرب أدمعهم. أو أتخيله ينشدها فى المذياع لتصل إلى أسماع وزير خارجية جلس يشاهد مباراة كرة قدم مع نتنياهو فى منزله بالقدس. أتخيله يزأر بها كآخر الأوابد العربية إثر فصول معركة قرار وقف الاستيطان بالأراضى المحتلة فى مجلس الأمن، فتتناقل قصيدته وسائل الأنباء. ليكون لقصيدته فعل الزلزال. فقد أثارت ردة فعل هستيرية لدى أفيجدور ليبرمان حين بثتها إذاعة الجيش الإسرائيلى هذا الصيف. لكن البادى أن القصيدة صارت منسية عند بعض العرب ممن ضيعوا «بطاقة الهوية».

•••

أغسطس
وجدتنى فى توسكانيا. جنة الله على الأرض، فى قلعة جبلية قروسطية، نُفى إليها شاعر إيطاليا دانتى أليجييرى وألف فيها ملحمة «الجحيم» قبل ستة قرون. أى جحيم وجده صاحب «الكوميديا الإلهية» فى هذه البقعة الباهرة؟ سألتُ فأجابتنى أستاذتُنا الإيطالية: على ضفاف ذلك النهر المترامى فى وادينا دارت فى زمانه معارك وأُزهقت أرواح. ثم أردفت باسمة: يُشاع إن إحداها ما يزال يسكن القصر الذى ندرس فيه هذا. تسمعين حفيف ردائها فى الليالى القمراء، إذ تجوب الأروقة باحثة عن قتلة ابنها. هكذا تقول الأسطورة، فمن أى البلاد أنت؟
فما إن عرفت أننى مصرية حتى اتسعت حدقتاها وقالت: هل رأيت اللافتات الصفراء فى مدننا على مر تجوالك؟ نحن أيضا ستظل أرواحنا هائمة تطلب الحقيقة فى مقتل جوليو ريجينى!

•••

سبتمبر
بيروقراطية الدولة العميقة تمد أذرعها الأخطبوطية فتشل أى حراك وتقتل أى رغبة فى التغيير. وجوه وأصوات من رموز عهد مبارك تعود لتطل برأسها عبر قنوات الإعلام وفى مجالات الفضاء العام. خرَجَت بقدرة قادر من محبسها لتُسدى نصحا لإنقاذ الاقتصاد، أو تدلى بدلو للقضاء على الغلاء، أو تمارس عملها فى الجامعات. والشباب يركب من يأسه البحرَ طلبا للهجرة ويغرق قرب رشيد. وفيما تتم إدانة المستشار هشام جنينة بسبب تقريره حول الفساد، تتم تبرئة قتلة ثوار يناير فى المحاكم الواحد تلو الآخر.
هل قامت فى هذه البلاد ثورة؟ أكاد أشك فى ذلك.

•••

أكتوبر
السابعة صباحا بتوقيت القاهرة. النقطة البيضاء لاحت عند بداية الشارع الطويل، ألمحها وصويحباتى من مكاننا عند باب المدرسة. تدنو منا فنتبين فى اقترابها السريع هيئة إنسان. ها هو «أنكل فاروق» يأتى راكضا بزيه الرياضى الأبيض الناصع، يستبق ابنته يارا صديقتى الصدوق، ليوصل لها حقيبتها قبل أن تصل هى من بعده تخطر كالأميرات. ليس كل منا يملك قصيدة باسمه، ينشدها والدها فى عيدها، بصوت تماهت نبراتُه فى آذان العرب مع موسيقى اللغة العربية. وانحفرت شاعريته فى هويتنا ووجداننا الوطنى:
«يارا (..) ألمح فى عينيك وجه أميَ الذى ودعته قبل سنين
وعاد لى من رحلة الزمان، حانيا، مؤانسا
وحين أحتويك، تهتزُ الضلوع، ترتجف
يسيل شىء من عيونى المطرقة
ينساب شىء فى مسارب الحنايا
وتصبحين يا ابنتى، أُمى، ويدفق الحنان
سحابة من الدموع والشجون والرضا»
رحم الله فاروق شوشة، شاعرنا العربى الجميل وفارس لغتنا الجميلة. سيظل فى رداءه الناصع فى سماء الذاكرة، نجما وضاء يهدى التائهين ويؤنس عشاق الضاد العابرين.

•••

نوفمبر
• «فصَلى جنيه على أدى يا ترزى البنك...».
• «الملاحة، والملاحة، وحبيبتى ملو الطراحة، حسرة علينا يا حسرة علينا»
• «لازم ندوش الدوشة بدوشة أدوش من دوشتها عشان ماتدوشناش!»
• «حد له شوق فى حاجة ؟!»
• «القرد لسه بيطنطط يا دكتور ولا بطل تنطيط؟؟»
من أفلام محمود عبدالعزيز (1946ــ2016)

•••

ديسمبر
وختاما، بطاقة عزاء وسلام على أرواح الشهداء، ممن سقطوا بأيدى الإرهاب الغادر، سلام على الجندى المصرى المرابض فى سيناء، وعلى الشهداء المصلين فى الكنيسة البطرسية، ولكل ضحايا العنف، جوا وبرا وبحرا، من حلب إلى الموصل، ومن إسطنبول إلى الفلوجة، ومن نيس إلى برلين، ومن بروكسل إلى بيشاور، ومن لاهور إلى فلسطين. ممن قضوا فى سوق أو فى مشفى، أمام مخبز أو فى مُصلى، فى طائرةٍ أو فى عرض البحر، على ممشى للسائحين أو فى معرض للفنون التشكيلية. لكم الرحمة وللإنسانية الأمل فى الخروج من «معسكر القديسين»، إلى حيثما لا دواعش ولا ذئاب منفردة، ولا قمع ولا جلادين.

•••

كل عام وأنتم بخير

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات