الصوت الخفى - كمال رمزي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 7:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصوت الخفى

نشر فى : الخميس 27 فبراير 2014 - 3:00 م | آخر تحديث : الخميس 27 فبراير 2014 - 3:00 م

لولا ذلك العمل الفذ لكانت دورة هذا العام من المهرجان الوطنى للفيلم المغربى عادية. وربما، بأفلامها الروائية التى تتجاوز العشرين، باهتة. صحيح، قد يتألق أحد العناصر الفنية فى هذا الفيلم أو ذاك، لكن لن تشاهد، على مدار عشرة أيام، عملا متكاملا، يبهرك بمستواه ويجعلك تؤجل كل المناقشات التى تعيد النظر فى مسألة الدعم المالى الذى تقدمه الدولة، بسخاء، لأفلام لا جدوى منها، تعانى من خفوت الطاقة الإبداعية، وتكاد تغدو تكرارا لأفلام شوهدت من قبل.

جاء «الصوت الخفى» الحاصل على الجائزة الكبرى، ليعلن بجلاء ان فى السينما المغربية نبضا قويا يرفع من شأنها ويجعل لمهرجاناتها معنى وقيمة، بل يدفع المتابع إلى الاعتراف، من دون تردد ان الابداع المغربى فى هذا العمل، بتوقيع المؤلف السينمائى كمال كمال، يصمد للمقارنة مع الأفلام العالمية التى حققها كارلوس ثورة، روبى مارشال، توم هويد، أو غيرهم من أصحاب الرؤى، أساتذة الأفلام الموسيقية الغنائية الاستعراضية.

من العسير، والمتعسف، ادراج الصوت الخفى، فى نوع سينمائى محدد.. الصوت الخفى، ببصمته الخاصة، لا ينتمى إلا لكاتبه ومخرجه، المولع بالموسيقى، وهى هنا لا تصاحب الأحداث أو تعبر عن الشخصيات، ولكن تدخل فى بنية الفيلم وتسرى فى شرايينه، لتجسد مع بقية العناصر، رؤية المؤلف، المبنية على تداعيات شديدة التركيب، تنتقل من الحاضر إلى الماضى، ومن اللحظات المعاشة إلى ما تجود به الذاكرة، واضحة مرة، ويعلوها ضباب مرات، ومن الخاص إلى العام، ومن العقل الصارم إلى الجنون المطلق، ومن الرمال والجبال إلى خشبة المسرح، ومن الجلادين والطغاة إلى الصامدين والمقاومين.. وطوال مائة دقيقة، يتدفق الفيلم بإيقاعه الأخاذ وبدرجاته اللونية ما بين الأبيض والأسود، وبأداء تمثيلى متميز ومتناغم، فيبدو وكأن عرضه لا يستغرق سوى بضع دقائق.

المعلومات المتوافرة عن الموهوب كمال كمال تقول انه ولد عام 1961 فى مدينة «بركان» المغربية القريبة من الحدود الجزائرية، والدته، حسب روايته ــ هربت من الجزائر إلى المغرب عقب الحكم عليها بالإعدام من قبل السلطات الفرنسية لانخراطها فى جيش التحرير.. كمال كمال، درس الموسيقى بالمعهد الموسيقى بوجدة من «1971 ــ 1978» ثم التحق بالمعهد الحر فى باريس، تخصص فى السيناريو ثم الإخراج. عمل فى التلفاز والافلام التسجيلية.. لكن قائمته، فى الأفلام الروائية ــ وهى الأهم ــ تشتمل على «طيف نزار» 2001، الذى يسرد قضيتين فى وقت واحد، ينتصر فيهما لجدية المرأة وكرامتها. وما عنوان الفيلم إلا تحية وتيمنا بالشاعر نزار قبانى، الذى عبر فى قصائده عن مشاعر المرأة وشجاعتها وعنفوانها.. فيلمه الثانى «السيمفونية المغربية» 2006، تتزاوج الموسيقى مع الدراما، المشحونة بالنماذج البشرية المهمشة، الشريدة، التى تتمكن، فى النهاية من عزف سيمفونيتها الجميلة، الخاصة. الفيلمان، فى رؤيتهما، واسلوبهما، كانا لابد ان يؤديا إلى «الصوت الخفى». يبدأ الفيلم قبل ظهور العناوين: فتاة فى ريعان الشباب، تفيض بالحيوية والأمل، تؤدى دورها جيهان كمال ابنة المخرج، تحمل آلة الكمان فى يدها، تسير نحو معهد موسيقى فيما يبدو، تخلع قبعتها فى مرح وتضعها على رأس تمثال لعازفة.. تواصل المسير، وما ان تخرج من الكادر حتى ترتفع صرخاتها المكتومة ويعم الظلام.. بعد ظهور العناوين، تتلمس الكاميرا بطلتنا بوجهها النحيل، الذابل، وعيونها المنهكة المذعورة بالإضافة لجروح غائزة.. وبينما تتلقى علاجها يحاول العجوز، بصبر وجلد ترميم «الكمان» المهشمة، ولصق أوصالها قطعة قطعة.. وفورا تتدفق من ذاكرة الرجل أحداث جرت عند «خط موريس» الذى أقامته السلطات الفرنسية مدعوما بأسلكة مكهربة، وحقول ألغام على طول 700 كيلومتر لمنع التسلل من وإلى الجزائر.

براعة اسلوب كمال كمال تتجلى فى توالى «الفلاش باكات»، على نحو لا يشعرك بقطعات أو نقلات، برغم كثرة الأحداث وتنوع الشخصيات، واختلاف القصص، فثمة ملجأ الصم والخرس، وطبيب فرنسى يقوم باغتصاب منتظم لإحدى النزيلات، يتم اغتياله.. جرحى يحاولون اجتياز حقول الموت.. رجل ألمانى الأصل تبتر رجله أثناء شق طريقه إلى بر الأمان.. تعاطف كامل بين المغاربيين والجزائريين فى نهاية الخمسينيات.

هكذا، من دون شعارات أو تعبيرات طنانة.. وبين الحين والحين شذرات من أوبرا، ربما تدور فى قلب أحد الأبطال، أو من وجهة نظر مؤلف الفيلم.. بعبارة أخرى لا يمكنك الفصل بين فلاش أو آخر، أو أين تبدأ تلك القصة وكيف تنتهى، فالفيلم كله وحدة واحدة تذكرنا بأيام المجد والعذاب، ولا يفوتها، بما تعرضت له بطلتنا، ان وحشية الماضى، متمثلة فى الاحتلال، لم ينته تماما، ولكن هذه المرة، العدو بيننا، يكره الشباب والحيوية والحياة، ويمقت الموسيقى، فعلينا الانتباه.. «الصوت الخفى» لا يرفع من شأن السينما المغربية وحسب، بل يعتبر مكسبا للسينما العربية.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات