الخدمة المدنية بين الكفاءة والسلام الاجتماعى - عمرو عادلى - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخدمة المدنية بين الكفاءة والسلام الاجتماعى

نشر فى : الأحد 27 مارس 2016 - 10:40 م | آخر تحديث : الأحد 27 مارس 2016 - 10:40 م
وافق مجلس النواب دون تعديل يذكر على ما يزيد عن ثلاثمائة تشريع صدر بين ٢٠١٣ و٢٠١٥، ولم يجر الاستثناء إلا على قانون الخدمة المدنية الذى سبق أن أصدره الرئيس السيسى كإطار تنظيمى لإصلاح جهاز الدولة الإدارى، وإعادة هيكلته ورفع كفاءته مع فتح السبيل ــ ولو جزئيا ــ أمام تخفيض العبء المالى لجهاز الدولة الإدارى عن طريق توسيع فرص الخروج للمعاش المبكر والاستقالة والتضييق على الإجازات والإعارات، وقد عكس هذا الاستثناء مقدار الحساسية الاجتماعية والسياسية لقضية «إصلاح» الجهاز الإدارى فى مصر، والتى تتجاوز من حيث تداعياتها وآثارها مقتضيات الكفاءة الفنية والإدارية والمالية التى تبتغى الحكومة ــ والرئاسة بالطبع ــ تحقيقها فى هذه المرحلة. فكيف يمكن التوفيق بين إصلاح الجهاز الإدارى للدولة وفى الوقت ذاته عدم الإخلال بالاستقرار الاجتماعى والسياسى؟

***
مبدئيا ليس هناك مجال كبير لإنكار الحاجة لإصلاح جهاز الدولة، والذى يجمع بين التضخم فى العدد، وتدنى الكفاءة سواء فى أداء الخدمات العامة أو إتمام الإجراءات التنظيمية للمواطنين أو لأصحاب رأس المال، مصريين كانوا أو أجانب، ومن كبار أو من صغار المستثمرين، وقد أصبح من المعلوم بالضرورة فى المرحلة الحالية أن الجهاز الإدارى للدولة يعانى من بطالة مقنعة، قد تصل طبقا لتقديرات وزير التنمية الإدارية الأسبق إلى ما يزيد على نصف إجمالى العاملين، وأن هذه العمالة تتقاضى مرتبات وأجورا زهيدة ــ على الأقل للقاعدة العريضة من الموظفين ــ وأن هذا التضخم يؤدى إلى تدنى إنتاجية العامل، ويضعف من قدرة الدولة على الاستثمار فى بناء القدرات والمهارات أو حتى توفير أجور لائقة للعاملين بما يحفزهم للعمل ويقيهم الحاجة للتكسب بطرق غير شرعية، وهو ما يؤدى لتفشى عدم الكفاءة والفساد بمختلف أنواعه، ومن المعلوم كذلك أن غياب الكفاءة وانتشار الفساد يكبدان الاقتصاد والمجتمع تكاليف باهظة متمثلة فى الاستثمارات غير المتحققة والموارد المهدرة والفرص الضائعة علاوة على التكلفة السياسية من حيث فقدان الثقة فى جهاز الدولة ونزع الشرعية والمصداقية عن السياسات والمؤسسات العامة.

ولكن فى مقابل هذا فإن الجهاز الإدارى للدولة بجميع مكوناته من إدارات مركزية ومحلية وهيئات عامة خدمية واقتصادية، مضافا إليها شركات قطاع الأعمال والقطاع العام، توظف ما يقارب الثلث (٣١٪) من إجمالى القوى العاملة فى مصر طبقا للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى ٢٠١٢، وأن الرقم المطلق الذى يصل إلى ستة ملايين يشير إلى أن هناك نحو عشرين مليون مصرى على أقل تقدير يعتمدون على الوظيفة العامة كمصدر للدخل، وإذا أضيف إلى هذا أن العاملين فى الدولة هم الغالب الكاسح من العاملين بعقود وتأمينات ــ أى بالقطاع الرسمى ــ تبين أن غالب الوظائف فى القطاع الخاص هى إما غير رسمية أى بدون عقود دائمة ومن ثم بقدر محدود من الأمان الوظيفى، أو أنها من عينة التوظيف الذاتى فى مهن صغيرة ضعيفة الإنتاجية، وهو الأمر الذى قد يفسر ــ ولو جزئيا ــ استمرار تفضيل العديد من الشباب المتعلم تعليما عاليا أو متوسطا للتوظيف الحكومى، وعلاوة على ما سبق فإن الجهاز الإدارى للدولة يحوى القسم الأكبر من العمالة النسوية علما بأن القطاع الخاص قد أظهر عزوفا عاما عن توظيف النساء نتيجة ارتفاع التكلفة النسبية لإجازات الوضع وفرص الانقطاع عن العمل بعد الزواج.

يشير ما سبق إلى حقيقة يجب عدم تجاهلها فى السياق التاريخى الاجتماعى لمصر فى العقود الخمسة الماضية وهى أن جهاز الدولة الإدارى ليس فحسب جهازا لتنفيذ السياسات العامة، وتقديم الخدمات وإتمام الإجراءات القانونية حتى ينظر إليه من منظور الكفاءة ــ كأى بيروقراطية أخرى ــ أو من منظور العبء المالى على جهة التوظيف ــ وهى الدولة ــ بل إن لجهاز الدولة فى مصر وظيفة اجتماعية سياسية مهمة وهى استيعاب الملايين من الشباب ــ ذكورا وإناثا ــ فى سن العمل ممن لا يمكن استيعابهم فى القطاع الخاص ــ المشوب بغياب الرسمية والأمان الوظيفى ــ، وأن الملايين الذين يعتمدون على جهاز الدولة كمصدر للدخل هم فى واقع الحال يحصلون على نوع من إعانة البطالة أو توفير دخل لشرائح متعلمة تعليما جامعيا أو متوسطا، وأن هذا ضرورى ــ على تكلفته المالية والبطالة المقنعة ــ لحفظ قدر من السلام الاجتماعى ومن ثم السياسى، ومن هنا أمكن من الزاوية الواقعية النظر لبند الأجور فى موازنة الدولة العامة، والذى يصل إلى نحو الربع من إجمالى الإنفاق العام كضريبة يدفعها المجتمع ككل لمكافحة البطالة وما ينجم عنها من مشاعر بالإقصاء والغبن خاصة لدى الشباب المتعلم.

***
إن المخرج يكمن فى الاعتراف بأن جهاز الدولة الإدارى فى مصر يؤدى وظيفة اجتماعية تتجاوز مجرد كونه جهازا إداريا لشركة أو لمرفق، وأن تكلفة تخفيض العمالة باسم الإصلاح تعرض الاستقرار الاجتماعى لخطر داهم وغير مبرر من عدم الاستقرار بالفعل، والثانى هو أن الجهاز بالفعل غير كفء، ويجب فصل بناء كفاءته وزيادة قدراته عن تسريح العمالة الزائدة فى المدى القصير أو حتى المتوسط ويكون هذا أولا بالإبقاء على العمالة الزائدة ودفع الرواتب كاملة لمدة الخدمة المتبقية أى تحويل أجور العمالة الزائدة بشكل معلن وصريح إلى إعانة بطالة، وأن يتم هذا طبقا لمعايير واضحة وموضوعية وشفافة خاصة ببناء القدرات والمهارات للعاملين فى الدولة ما يقضى بالإبقاء على النصف، والاستثمار فى الموارد البشرية والمادية الخاصة به.

وفى المقابل تخفف الدولة من عبء الأجور عليها بتقليص وزنها النسبى أى بزيادة الإيرادات الضريبية مع عدم زيادة الرواتب بنفس النسب، وهو ما يعنى عدم الإضرار بدخل العائلات المعتمدة على جهاز الدولة ولكن فى الوقت نفسه تحويل القدر الأكبر من الموارد لأغراض استثمارية لها عائد على الاقتصاد.


خبير فى الاقتصاد السياسى
التعليقات