يا طالع الشجرة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 2:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يا طالع الشجرة

نشر فى : الخميس 28 يناير 2010 - 10:12 ص | آخر تحديث : الخميس 28 يناير 2010 - 10:12 ص

 أراد نتنياهو التهكم على الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى لقاء مع الصحفيين الأجانب مساء يوم العشرين من الشهر الجارى فقال إنه ــ أى الرئيس الفلسطينى ــ «تسلق شجرة، وهم (أى الفلسطينيون) مرتاحون فوق الشجرة. الناس تحضر سلما لهم. نحن نحضر سلما لهم. كلما ارتفع السلم واصلوا التسلق...إنهم يرفضون النزول عن الشجرة». ولو كان هذا التهكم السخيف فى غير موضعه صحيحا فإن صحته ترجع إلى التطرف المتصاعد لنتنياهو، والتخاذل الذليل المعتاد للسياسة الأمريكية. وعلى الرغم من أن صفحة التسوية لم يعد فيها حرف واحد جديد يكتب عن عقمها فإن المتغيرات تتراكم يوما بعد يوم نحو مزيد من إثبات هذه الحقيقة، حتى ليحار المرء فى تفسير سلوك المتمسكين بها.

ولعل أول المتغيرات التى طرأت مؤخرا على عملية التسوية العقيمة يتمثل فيما صرح به رئيس الحكومة الإسرائيلية فى اليوم نفسه (20يناير الجارى) بأنه حتى فى حال إحلال السلام فإن إسرائيل ستواصل فرض وجودها على الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية (منطقة غور الأردن) بداعى «منع تهريب الأسلحة إلى الدولة الفلسطينية»، على أساس أن خبرة إسرائيل من حالتى لبنان وغزة تفيد بتهريب الأسلحة إليهما بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منهما. بعبارة أخرى فإن نتنياهو يريد الاحتفاظ بغور الأردن الذى تبلغ مساحته 28% من مساحة الضفة الغربية، فعن أى سلام يتحدث إذن؟ خاصة إذا أضفنا لذلك مواقفه المعروفة من المستوطنات وتهويد القدس الشرقية وغيرهما من القضايا.

ومن المعروف أن مصادر مصرية مسئولة رفيعة المستوى كانت قد وصفت زيارة نتنياهو الأخيرة لمصر فى آخر ديسمبر الماضى بأنها «إيجابية للغاية»، وذكرت «إن رئيس الوزراء الإسرائيلى تحدث عن مواقف تتجاوز فى تقدير مصر ما سمعناه منذ فترة طويلة»، وأشارت هذه المصادر إلى أنها لن تكشف «عن جوانب الرؤية الإسرائيلية، وذلك بناء على طلب نتنياهو»، وهاهى المواقف الجديدة تتكشف شيئا فشيئا، ولعل الطريقة التى أدار بها نتنياهو علاقته بمصر سواء فى حكومته الأولى فى1996 أو التى يدير بها العلاقات نفسها فى الآونة الحالية تحتاج إلى دراسة وإمعان نظر واستخلاص للدروس، حتى لا تقع السياسة المصرية فريسة لتكتيكات نتنياهو أو غيره.

ثانى المتغيرات بطبيعة الحال يرتبط بما طرأ على الموقف الأمريكى «الواعد» فى ظل الرئيس باراك أوباما الذى تضمن خطابه «التاريخى» فى القاهرة يوم الرابع من يونيو الماضى مقاطع ألهبت حماس الكثيرين، وتحدث فيه بصراحة ــ بعد تأكيد الالتزام الأمريكى ببقاء إسرائيل وأمنها بطبيعة الحال ــ عن أنه «يجب على الإسرائيليين الإقرار بأن حق فلسطين فى البقاء هو حق لا يمكن إنكاره، مثلما لا يمكن إنكار حق إسرائيل فى البقاء. إن الولايات المتحدة لا تقبل مشروعية من يتحدثون عن إلقاء إسرائيل فى البحر، كما أننا لا نقبل مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية. إن عمليات البناء هذه تنتهك الاتفاقات السابقة، وتقوض الجهود المبذولة لتحقيق السلام. فقد آن الأوان لتتوقف هذه المستوطنات، كما يجب على إسرائيل أن تفى بالتزاماتها لتأمين تمكين الفلسطينيين من أن يعيشوا ويعملوا ويطوروا مجتمعهم، لأن أمن إسرائيل لا يتوفر عن طريق الأزمة الإنسانية فى غزة، أو عن طريق انعدام الفرص فى الضفة الغربية. إن التقدم فى الحياة اليومية التى يعيشها الشعب الفلسطينى يجب أن يكون جزءا من الطريق المؤدى للسلام، ويجب على إسرائيل أن تتخذ خطوات ملموسة لتحقيق مثل هذا التقدم».

يمكن القول إذن بأن أوباما بدا فى يونيو الماضى ــ مع تأكيده الالتزام الأمريكى تجاه إسرائيل ــ معارضا صلبا لإقامة المستوطنات، ومطالبا بوقفها، بل إن ترجمة كلماته «الدبلوماسية» عن غزة يمكن أن تفضى إلى معنى المعارضة الواضحة للحصار الإسرائيلى المفروض عليها. لكن شيئا مما طالب به أوباما لم يحدث، وبالمقابل خرج علينا باعتراف فى مقابلة نشرتها مجلة «تايم» الأمريكية فى عددها الأخير بأنه بالغ فى تقدير فرص السلام فى الشرق الأوسط، وأضاف أن الإسرائيليين والفلسطينيين وجدوا أن «البيئة السياسية وطبيعة التحالفات أو الانقسامات داخل مجتمعاتهم بلغت درجة جعلت من الصعب عليهم البدء فى حوارٍ مفيد»، واعترف أوباما بعدم تمكن الإدارة الأمريكية من تحقيق الانفراج الذى كانت ترغب به، مضيفا أنه لو أن إدارته توقعت الصعوبات السياسية على الجانبين «لما رفعت التوقعات إلى هذه الدرجة». ولذلك يبدو ما نقله مبعوثه ميتشل للرئيس الفلسطينى عن التزام أوباما التام بالاستمرار فى جهوده للتوصل إلى دولة فلسطينية مستقلة وتحقيق مبدأ الدولتين كلاما فارغا من أى مضمون حقيقى.

بل إن مصادر فلسطينية مطلعة أوضحت أن ميتشل تراجع عن محفزات سابقة كان قد اقترحها لبدء المفاوضات، مثل تحويل مناطق (ب) إلى إدارة السلطة الفلسطينية بصورة كاملة، ونقل أجزاء من المنطقة (ج) الخاضعة بالكامل للسيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية إلى إدارة السلطة الفلسطينية، وإطلاق معتقلين فلسطينيين، وإزالة حواجز عسكرية، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وتوجيه رسالة ضمانات إلى الجانب الفلسطينى بشأن الهدف النهائى من المفاوضات، وهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

فى مواجهة هذا التدهور المتزايد الذى يكشف عنه المتغيران السابقان يذكر للرئيس محمود عباس أنه ما زال متمسكا بشرط وقف الاستيطان لبدء المفاوضات، وبغض النظر عن فعالية التكتيك الحالى للرئيس الفلسطينى فإن الواضح أن الطرفين الإسرائيلى والأمريكى قد أصابهما القلق من هذا التكتيك، ذلك أنه يحرمهما من لذة الشرعية التى يضفيها عليهما انخراط الطرف الفلسطينى وأطراف عربية أخرى فى هذه اللعبة العقيمة، وقد كشفت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية أن الرئيس الإسرائيلى وجه تحذيرات إلى عباس من عواقب عدم عودته إلى طاولة المفاوضات، وأفادت أنه حذره تحديدا من أن استمرار الجمود السياسى قد يقود إلى انتفاضة فلسطينية جديدة، وأنه تحدث إلى عباس قائلا «إنك تلعب بالنار بإرجائك بدء المفاوضات»! أما الإدارة الأمريكية فقد صرح ميتشل بأن العودة إلى المفاوضات أمر بالغ الأهمية إذا كان الفلسطينيون يريدون مساعدة واشنطن للتوصل إلى معاهدة سلام مع إسرائيل، ثم صعدت هذه الإدارة مواقفها بالقول القاطع بأن «أى سبيل غير المفاوضات مع إسرائيل سيكون كارثة على الفلسطينيين».

على الرغم من سخافة تشبيه نتنياهو وصفاقته فقد أوحى لى هذا التشبيه بفكرة عن العلاقة بين «طلوع الشجرة» و»عقم التسوية»، فالمأثور الشعبى يقول: «يا طالع الشجرة. هات لى معاك بقرة. تحلب وتسقيني. بالمعلقة الصيني»، لكن المأثور الذى يقبل وجود بقرة فوق الشجرة سرعان ما يكتمل بالقول «والمعلقة انكسرت. يا مين يغديني»، فالحلم كله إذن ينتهى إلى لا شيء. وقد قادنى هذا إلى معاودة قراءة رائعة توفيق الحكيم «يا طالع الشجرة»، فوجدت كاتبنا الكبير يستهل مقدمته المتميزة لهذه المسرحية بالمأثور نفسه متسائلا بعد سرده: هل لهذا الكلام معنى؟... ومع ذلك فإن أجيالا من الأطفال والصبية قد رددوه، وما زالوا يرددونه فى بلادنا، ولقد سألت أخيرا صبيا يردده، وكان فطنا ذكيا، فاعترف بأنه فعلا لم يفهم له معنى، وأنه من غير المعقول فى رأيه أن تكون هناك بقرة فوق الشجرة، وبرغم هذا انطلق يردده فى نشوة ومرح». وقلت لنفسى إن البقرة هنا هى رمز التسوية السراب، فلا يعقل أن تكون هناك بقرة فوق الشجرة فعلا، ومع ذلك فإن مسئولينا العرب الممسكين بملف التسوية ما زالوا كذلك الصبى يرددون هذه الكلمات فى نشوة ومرح.

والغريب أننى وجدت فى المسرحية- مع اختلاف السياق بطبيعة الحال- عديدا من النماذج التى تشير إلى «التسوية الضائعة». أتكون هذه التسوية الضائعة هى «السحلية» التى اعتاد «بهادر افندي» بطل المسرحية وجودها وقربها حتى صار يحبها؟ وهو يقول تفسيرا لهذا الحب: «عندما ترى شيئا بقربك كل يوم...لابد أن تعرفه وأن تحبه. أليس كذلك؟ لست أنكر: لم يكن الأمر كذلك عندما وقع نظرى عليها أول مرة. يوم ذاك رأيتها قبيحة المنظر ومرعبة تثير فى النفس التقزز. هممت بقتلها. ثم طرحت هذه الفكرة مؤقتا. تركتها مؤقتا تعيش. ثم صرت أراها كل يوم...لم ألبث أن اعتدتها، وهكذا ارتبطت بها ورتبت حياتى فى الحديقة على حياتها ونظامها وعاداتها». ومع ذلك فإن السحلية القبيحة المحبوبة من «بهادر افندي» تتخلى عنه وتختفى تماما كما فى سراب التسوية.

أتكون التسوية هى ذلك الميلاد الذى لا يجئ أبدا، والذى ظلت «الست بهانة» زوجة «بهادر افندي» التى اختفت بدورها تتوهمه على مدار السنين بعد أن أسقطت حملها الأول فى شهره الرابع منذ أربعين سنة؟ أتكون التسوية الضائعة هى تلك الشجرة نفسها التى تدور حولها المسرحية والتى يريد «بهادر افندى» أن يضع لها سمادا من جسد آدمى تتغذى بكل ما فيه من متناقضات كى «تطرح فى الشتاء البرتقال، وفى الربيع المشمش، وفى الصيف التين، وفى الخريف الرمان»؟

لكن قمة المأساة فى شجرة التسوية أنها تغذت عبر العقود من أجساد عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب، لكنها حتى الآن شجرة عقيمة لا تطرح ثمارا من أى نوع، ومع ذلك فإنها تغرى البعض بتسلقها، والمثابرة على هذا التسلق، لكنها لا تلبث أن تطرحه أرضا دون رحمة جزاء وفاقا على سوء التدبير، ومع ذلك فإن الإغراء باقٍ والوقوع مستمر، وما زال مسئولونا العرب يرددون فى نشوة ومرح ــ كذلك الصبى الذى سأله توفيق الحكيم يوما ــ ذلك المأثور الشعبى الغريب.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية