النقـود..أرقام وأوهام وآثام - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النقـود..أرقام وأوهام وآثام

نشر فى : الأربعاء 29 فبراير 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 29 فبراير 2012 - 8:00 ص

تعتبر النقود من أهم مقومات تنظيم الحياة الإنسانية، لكونها تسهل تبادل المنتجات بدلا من أن يظل محدودا بقواعد المقايضة المباشرة التى قيدت أطره المكانية والزمانية، كما أنها تتيح للمرء أن يحتفظ فيها بقيم غير محدودة، يتصرف فيها حينما يريد وأينما يشاء. وإذا كانت الوظيفة الأولى ذات مردود طيب لتمكينها البشر من الحصول على ما يرغبونه من طيبات الحياة بالتخلص من النقود مقابل سلع وخدمات ينتجها أو يمتلكها آخرون، فإن الوظيفة الثانية تعتمد على اختزانها فتصبح أصلا غير منتج لا يتيح لمالكها أو لرفاقه فى المجتمع إشباع حاجة إنسانية، إلا إذا أحالها إلى أصل من نوع آخر، أو أعادها إلى دورة الإنفاق لتنضم إلى التدفقات الجارية. وقد ذكّر الخالق عز وجل من «يحبون المال حبا جما» بأنهم لا يكسبون إلا بوارا، وما قصة قارون إلا تذكرة للعالمين. ووعد عباده «الذين مما رزقناهم ينفقون» خيرا، بينما توعد «الذين يكنزون الذهب والفضة» بعذاب أليم.

 

●●●

 

وحينما كان النشاط الإنسانى ملتصقا بالطبيعة فى الزراعة واستخراج المعادن كانت المقايضة منتشرة بحكم أن الأصول الشائعة كانت ذات طبيعة زراعية، كالأشجار المثمرة (وهو ما كان سائدا فى النوبة مثلا قبل التهجير) أو رءوس الماشية، بينما يجرى التبادل بين منتجات زراعية أو معدنية مجهزة وفقا لاحتياجات المشترين. وبحكم اختلاف المحاصيل والموارد المعدنية من مكان لآخر، كانت التجارة عبر الحدود هى المصدر الأساسى للحصول على منتجات غير متاحة محليا، وهو ما جعل تسعة أعشار الرزق فى التجارة. وفضل البعض، كالأسبان أن تتم تجارتهم عن طريق الذهب والفضة لإمكان الاحتفاظ يهما لمدد غير محدودة، وقبول الجميع لهما، وهو ما جعل الفكر الاقتصادى الذى شاع فى القرون الوسطى يقيس ثروة الأمة بما لديها من معادن نفيسة، ويرى أن النشاط التجارى يفوق ما يتيحه الاشتغال بمعالجة الموارد الطبيعية، فنشأت بذلك الرأسمالية التجارية.

 

غير أن دخول العالم طور الصناعات التحويلية المعتمدة على الآلات المسيرة بالطاقة المستمدة من الفحم أساسا، دفع الفلاسفة البريطانيين الذين عاصروا هذا التحول يعلون من شأن المنتجات الصناعية، ومن ضرورة تدبير البنيات الأساسية التى تساعد على تركيز المصانع فى مواقع بعينها، وتدبير السلع والخدمات ــ التى يحتاجها العمال ــ اللازمين لتشغيل العدد والآلات ومعالجة المواد اللازمة للإنتاج والمنتجات التى يجرى إنتاجها على نطاق يفوق حاجة المنتجين، ونقلها إلى مواطن الاستهلاك فى الداخل أو الخارج. وأكد رائد علم الاقتصاد «آدم سميث» أن ثروة الأمم تكمن فيما يضيفونه من إنتاج يشبع حاجات البشر. وصحب ذلك النظر إلى النقود على أساس أنها مقياس مشترك لقيم المنتجات المختلفة، وأداة للحصول عليها لمن أراد، وهو ما اقتضى وضوح واستقرار السعر النقدى لكل سلعة وكل خدمة، بما فيها أجر العامل أو ربح المنتج أو قيمة معدات الإنتاج، ليصبح رأس المال العينى أى القيمة النقدية للآلات والمعدات هو الأجدر بالاعتبار، وليس رأس المال النقدى بحد ذاته.

 

وواضح أنه إذا توفر قدر أكبر من النقود دون تغير فى حجم الإنتاج، حدث ارتفاع فى الأسعار. فإذا ظل سعر العمل أى الأجر النقدى على حاله، فإن هذا يعنى انخفاض قدرة العمال الشرائية، دون تحسن حقيقى فى دخول أصحاب العمل، خاصة إذا أدى انخفاض أجور العمال إلى نقص إنتاجيتهم وانكماش إجمالى طلبهم. وأدى تحليل أزمة الثلاثينيات بالاقتصادى البريطانى الشهير لورد كينز إلى إيضاح أن هذا قد يؤدى إلى انتشار البطالة، مما يدعو الدولة إلى التدخل، ليس بفرض رفع فى الأجور أو مزاحمة القطاع الخاص فى الإنتاج، بل بإقامة إنشاءات فى البنية الأساسية تخلق وظائف جديدة تشكل مستلزماتها والأجور فيها مصدرا لطلب إضافى يشجع رجال الأعمال على التوسع فى الإنتاج والتوظيف فتخلى الدولة الساحة لهم.

 

غير أن تدمير البنية الاقتصادية للدول الأوروبية فى الحرب العالمية الثانية، أخلى ساحة الإنتاج للولايات المتحدة، وأتاح لها الهيمنة على أسواق المال، وأصبح الدولار «عملة صعبة» المنال يحتاجها الجميع سدادا لقيم سلع الاستهلاك والإنتاج والاستثمار التى كانت أوروبا فى حاجة ماسة إليها. ومن ثم تقرر قصر تحويل العملة إلى ذهب على الدولار الأمريكى، على أن ترتبط باقى العملات به وفق سعر يتحدد بالاتفاق مع صندوق النقد الدولى، بدلا من قبول اقتراح كينز بأن يعمل الصندوق كمركز لتسوية المعاملات المالية بين الدول بما يقود إلى توازن عالمى يكفل دفع عجلة الإنتاج فى جميع الدول. وكان نتيجة هذا أن عانت الولايات المتحدة مشاكل حولتها إلى دولة عجز تتوسع فى استهلاكها أكثر مما تسمح به قدراتها لتوفر الدولارات لمن يحتاجها، وهو ما انتهى بها فى أوائل السبعينيات إلى فك الارتباط بالذهب وخفض قيمة الدولار به، تاركة باقى دول العالم تبحث عن قيمة مناسبة لعملاتها. وفتح هذا الباب للصندوق لفرض السياسات التى تطبقها لتنال رضا أسواق المال ــ المسيطرة عليها الولايات المتحدة ــ للحصول على تمويل لاحتياجاتها من طيبات الاستهلاك ومن معدات الاستثمار ومستلزمات الإنتاج. وصحب ذلك توسع عابرات القوميات الأمريكية الأصل فى نشاطها، وبخاصة فى المنتجات التكنولوجية وفى مقدمتها المعلومات والاتصالات مدعومة وداعمة لشبكة المال، وفارضة حرية حركة الخدمات وفى مقدمتها الأعمال المصرفية.

 

وهكذا شهدت السبعينيات تقلبات غير مألوفة، إذ حدث ركود كان المفروض أن تنخفض بسببه الأسعار كما حدث فى الثلاثينيات، ولكنه شهد تضخما رقع الأسعار انطلقت شرارته الأولى بارتفاع أسعار القمح أربعة أمثال (وهو ما أوقعنا فى فخ الدعم الذى يصب فى جيوب المزارع الأمريكى حتى الآن)، والبترول الذى تضاعف بقرار طهران 1971، ثم فى إطار حرب أكتوبر، وهدد نادى روما لرجال الأعمال بقرب فناء العالم بسبب أزمات الطاقة والغذاء والمعادن القابلة للنضوب مصحوبة بانفجار سكانى. واتِّخذ كل ذلك ستارا لأكبر عملية احتيال فى التاريخ. فقد تحول النظام النقدى العالمى من توفير متطلبات التجارة العالمية المتنامية الحجم والقيمة، إلى جهاز للمتاجرة فى النقود ذاتها: يشترى أحدهم ماركات ألمانية بدولارات أمريكية متوقعا ارتفاع قيمتها خلال بضع ساعات ليعود فيبيعها ليجنى فرق السعر قبل أن تتحرك النقود إلا على الورق. وسرعان ما تجاوز حجم هذه الحركة عشرين ضعف قيمة التجارة الداخلية. وبقى الدولار هو العنصر الأساسى.

 

●●●

 

وهكذا انفصل القطاع النقدى عن الاقتصاد العينى، وحققت البنوك أرباحا خيالية فأغدقت على العاملين فيها أجورا بالملايين، يوجهونها إلى إنفاق بذخى فضلا عن المضاربة فى بورصات الأوراق المالية. هذه الإيرادات التى تتحقق دون إضافة لناتج حقيقى هى النموذج الصارخ للربا، الذى دفع الكادحين إلى الاقتداء بالربيع العربى لاحتلال وول ستريت ولندن وغيرهما. وإذا بالدول الغنية تصبح مدينة ليس بالملايين أو البلايين بل بالتريليوتات. فإذا كانت الدول الغنية الكبرى قد انضمت إلى النامية الفقيرة المستدينة، فمن الذى يقرضهم جميعا، ومن أين يملك ما يقرضهم؟ وإلى متى نتحدث عن الحرية الاقتصادية والرأسمالية المهذبة ونحن نخطو خطوات أولى إلى منظومة مغايرة تماما لما صيغت فيه النظريات الاقتصادية السائدة؟

 

إن هذا يقتضى منا نظرة متفحصة لمآل الهياكل الاقتصادية حتى يمكن إعادة وضع النقود فى موقعها السليم منها.

 

سأحاول بدء النقاش فى هذا الأمر إن كان فى العمر بقية..

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات