المرأة ومشتقّاتها اليَوم - العالم يفكر - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 9:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المرأة ومشتقّاتها اليَوم

نشر فى : الإثنين 28 فبراير 2022 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 28 فبراير 2022 - 10:00 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة وفاء البوعيسى، تحدثت فيه عن وضع المرأة من بداية التاريخ وكيف أنها لم تكن تملك الكلام عن نفسها، إلى وضعها فى عالم اليوم حيث هوسها بالمكياج وإهمال قضاياها الإنسانية الحقيقة... نعرض من المقال ما يلى.
نكاد لا نجد كائنا أكثر صمتا من المرأة، على الرّغم من الاعتقاد بأنّها أكثر كلاما من الرجل، ونكاد لا نرى كائنا حيّا يتجلّى حضوره فى عالَمه مثلها.
لقرونٍ عدّة تأخَّرت المرأة عن موعدها بالكلام عن نفسها، وبالطبع لأسباب تاريخيّة معقّدة. وكان الرجل خلال ذلك يفكّر فى كيف يجب أن يبدو عليه حضورها. كان الذكور يُمارسون سطوة رؤاهم ووجهات نظرهم الخاصّة حول طبيعتها، فهل هى مثلا من الذوات العاقلة ولها كيان مستقلّ مثلهم، أم إنّها مجرّد كائنٍ بيولوجىّ غايته الترفيه عنهم وتكثير نَسلهم؟
وحين استقرّ الرأى لديهم على أنّها كائن بيولوجى، استبعدوا منه كلّ ما يُعتقد أنّه يخصّ الرجال، كالعضلات والعقل والقوّة والتعبير، حتّى أنّهم أسرفوا فى تعميق ما قرَّروا أنّه جذّاب، للوقوع على أنوثة خالصة النقاوة، دائمة الجاذبيّة والشباب.
هذه الأفكار الأوّليّة حول المرأة، تحوّلت فى ما بعد، إلى عقدٍ اجتماعىٍّ غير مكتوب، تَوَافَق عليه زعماء المجاميع الذكوريّة عبر التاريخ، من زعماء قبائل قدامى، وكَهنة مَعابِد، وأرباب مِهن، ومُلّاك أراضٍ، ومكدّسى أموال. وقد صَمَدَ هذا العقْد عبر التاريخ، فى وجه الحضارة والتقدُّم الذى شهدته الإنسانيّة، لكنّه خَضَعَ لتعديلاتٍ مُتعاقِبة هنا وهناك وهنالك، وهى تعديلاتٌ سايَرت أذواقَ الرجال، بحسب كلّ ثقافة ومناخاتها، لكنْ من طرفٍ واحدٍ على الدوام، وذلك لتنْقِيَةِ الأنوثة ممّا يُعتقد أنّها شوائب تُشينُها.
فى آسيا، وتحديدا فى الصين القديمة، كانت كواحل الفتيات الصغيرات تُشَدّ إلى عمود البيت، لثَنى الساقَيْن ومَنْحِ مَشيتهنّ تمايُلا وغنجا يفتن الرجال. وفى اليابان، جرى حشر أقدام الطفلات فى أحذيةٍ ضيّقة لسنواتٍ متوالية، حتّى تنبعج القدم وتتقلّص، وبذا تحتفظ الأنثى بقياسٍ صغير، مهما تقدَّمت فى العمر، هذا لأنّ الثقافة السائدة وقتها، كانت تعتقد أنّ المرأة اليابانيّة ليست بحاجةٍ لأن تمشى مسافاتٍ طويلة بعيدا من بيتها، وبما يكفل خدمة زوجها وأولادها فقط.
فى العالَم العربى، وفى موريتانيا بالتحديد، تُجبر النساء على تناوُل كميّاتٍ كبيرة من الطعام المشبّع بالدهون، بغرض تسمينهنّ للعريس قسرا، وذلك دونما اكتراث لعواقب ذلك على صحّة المرأة وعافيتها جرّاء تراكُم الشحوم وزيادة الكوليسترول الضارّ.
أمّا فى الثقافة الحسّانيّة فى المغرب الأقصى، فتتناول كثرة كاثرة من الشابّات كميّاتٍ محسوبة من علف الماشية، لتكبير أجزاء معيّنة فى أجسادهنّ، ولاسيّما الصدر. والمهمّ فى ذلك العقد المرتحل عبر الحدود والثقافات، كان إرضاء المزيد من تبدّلات أذواق الرجال وأمزجتهم فى الجمال الأنثوى.
فى السودان، سَرَت ثقافةُ ضرورة استرداد العذريّة بين النساء، عقب كل ولادة تخضع لها المرأة، عن طريق تضييق قناة عنق الرحم، فى شكلٍ مشوَّه ومؤلِم، لعَيش تفاصيل «ليلة الدخلة» مرّة أخرى.
أمّا فى أوروبا القرون الوسطى، فكانت الفتاة الصغيرة تُجبر على ارتداء مِشدٍّ للخصر ليل نهار، يضغط على أعضاء جسدها من الداخل، حتّى يتراكم بعضه على بعض، ليأخذ قوامُها مع الزمن شكلَ ثمرة الكمثرى، ولا يهمّ بعد ذلك مقدار الألم الذى ينجم عن ذلك، بخاصّة مخاطر الضغط المتوالى على الأمعاء والقفص الصدرى.
وفى زمن العَولمة، ومع التطور الهائل فى علم الطبّ ووسائل التغذية، تبدَّلت أذواق الرجال، ضاقوا ذرعا بالاختلافات بين النساء، بسبب طبيعة الحضارات التى ينحدرن منها، ففكّروا فى إلغاء تلك الفوارق، وتوحيد شكلهنّ بإلغاء هويّاتهنّ الخاصّة، التى تعبّر عن نفسها فى حجْم الأنف والشفاه، ونوعيّة الشعر، وحجْم الأرداف. مالوا إلى النحافة، وإحداث مقاييس صارِمة للأنف، وإلى ارتفاعٍ محسوبٍ بدقّة للخدَّين، وعدد الملّيمترات بين الحواجب والجفون، ولو اقتضى الأمر إعدام بصيلات الشعر فى الحاجب، واستبداله بـ«تاتو» محدَّد الشكل بدقّة متناهية.
أمّا الشفاه، فكان يجب أن تتدلّى مُنتفخة لتبدو وكأنّها فى وضْعٍ أكثر من جاذبٍ لكلّ ناظر إليها. وأمّا الخصر، فكان يجب نحْته ليبدو كقيثارة، وأسفله تُضخّم الأرداف على نحوٍ لا يتناسق مع النحافة المقصودة. وأمّا البشرة، فيجب أن يُحال بينها وبين تكدُّس التجاعيد وترهّلها، ما يوجِب شدّها أو حقْنها، فى رغبةٍ محمومة لأسْرِ انتباه الشباب لأطول مدىً مُمكن.
• • •
رَغِب رجال هذا القرن، بامرأة نَضِرة، لا تشيخ، لا تمرض، لا تسمن، ملساء، متورّدة، مضيئة مثل دمية المانيكان فى محالّ الألبسة والأزياء التجاريّة، وقد نجحوا فى ذلك؛ إذ خَرجتْ دمية المانيكان من
«الفيترينا» الآن، وهى تتمشّى فى كثيرٍ من شوارع العواصم والمُدن العربيّة والعالَميّة وساحاتها، شرقا وغربا، مُتمظهرة بمساحيق وموادّ جماليّة مُستعارة، كالرموش، والأظافر، وخصلات الشعر الصناعى، و«تاتو» بدل الحاجبَين، وعدساتٍ ملوَّنة، وسيليكون فى مناطق الصدر، وعقاقير لتكبير الشفاه وطرْد التجاعيد، ومُستحضرات تسمير البشرة أو تشقيرها؛ لكن وعلى الرّغم من تورُّد الخدود بصورةٍ شبه دائمة، فقد ظلّت الوجوه شاحبةً، هزيلة وكأنّها مُصابة بفقر الدم أو الأنيميا. ومع ذلك، ما زالت هذه الوجوه حثيثة تلهث خلف ما تتطلّبه آخر صراعات الموضة ودَورات الاستهلاك المحمومة؛ إذ تقدِّر بعض الإحصاءات الأمريكيّة أنّ حجْم المبيعات العالَميّة من مستحضرات التجميل يفوق الـ 210 مليارات دولار سنويّا فى مُختلف بلدان العالَم، والأمور مرشَّحة لمزيدٍ من تضاعُف المبيعات على الرّغم من الأزمات الاقتصاديّة التى تمرّ بها أغلب بلدان المعمورة.
من جهتها كانت شركة الأبحاث الدولية «يورو مونيتور إنترناشيونال» قد أعدَّت دراسةً خاصّة حول استهلاك العالَم العربى لمُستحضرات التجميل، بيَّنت فيها أنّ سوق مُستحضرات التجميل العربيّة، والعناية الفائقة بجمال المرأة، وانتشار عيادات عمليّات التجميل الخاصّة، قد زاد الاستهلاك فيها بنسبة 400 فى المائة خلال السنتَيْن الفائتتَيْن، ما يعنى أنّها السوق الاستهلاكيّة الأولى فى العالَم، تليها السوق الأمريكيّة، فالروسيّة ثمّ الأوروبيّة.
وتشتمل صناعة مُستحضرات التجميل على خمسة فروع رئيسة هى: مستحضرات العناية بالبشرة، وتحتلّ صدارة المبيعات، إذ تحظى بـ 44 فى المائة من إجمالى الطلب عليها، يليها الطلب على إكسسوارات المكياج، ثمّ مُستحضرات العناية بالشَّعر، فالعطور على أنواعها.
• • •
نعم، لقد جرى ومنذ قرون، وبإصرارٍ مقصود، اشتقاق امرأة أخرى، مُستخرَجة من الأولى، تُشبهها فى التركيب البنائىّ، لكنها ليست هى بالتأكيد.
كلّ ذلك يدفعنى للقول إنّ الهوس بالمكياج المُبالغ فيه، وعمليّات التنحيف والتجميل المُفرط التى نراها لدى كثيرٍ من النساء اليوم، لم تعُد، ومنذ مدّة طويلة، سلوكا فرديّا لبعض المُترفات، بل تحوَّلَ أمرها إلى ظاهرةٍ وثيقة الصلة بالمتغيّرات الاجتماعيّة والحياتيّة المصنَّعة وثقافة الاستهلاك التى رافَقت وتُرافق تنامى توحُّش الرأسماليّة العالَميّة، والتى من شأنها تصنيع الجمال النسوى وتسليعه، وتغيير نسيجه الطبيعى، وإخضاعه لسوق العرض والطلب، واستطرادا إنتاج امرأة ضحلة، نمطيّة، مُستنسَخة، مُثيرة، عصريّة المَظهر، والجمال المُفبْرَك، وتوظيفها فى الإعلان والماركات المسجَّلة، وحتّى فى الزواج السريع، وكلّ ذلك يعتمد على الظفر بامرأة خُلبيّة، مطواعة، حتّى لو تسطَّحت شخصيّتها وأَهملتْ قضاياها الإنسانيّة الحقيقيّة الملحّة، فالرجل إذّ ذاك سيعوّض غيابها بمزيدٍ من الأكاذيب حول تحرُّرها.

النص الأصلى:

التعليقات