إلى القرآن من جديد.. 4: حرية الإرادة - جمال قطب - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى القرآن من جديد.. 4: حرية الإرادة

نشر فى : الجمعة 28 أغسطس 2015 - 3:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 28 أغسطس 2015 - 9:16 ص

حرية الإرادة

ــ1ــ
من القيم القرآنية الهامة قيمة «الإيمان بحرية الإرادة الإنسانية» أى بحرية جميع البشر – البالغين الراشدين ــ فى أن يعتقد ما يشاء ((فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ))، إذ إن الله جل جلاله قد خلق الإنسان وكرمه ومنحه العقل ليتفاعل مع الوحى الإلهى قبولا أو تشككا أو رفضا، فعلى قدر قناعته وتصوره وإدراكه يستطيع تحديد موقفه من الوحى حيث إنه مسئول عن نفسه فى حاضرها ومستقبلها ((بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)).
ولذلك فقد جاء الخطاب القرآنى خطاب إخبار وتوعية، ثم خطاب تنشيط وتذكير ((يَا أَيُهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَكَ بِرَبِكَ الْكَرِيمِ))، ((يا أَيُهَا الْإِنسَانُ إِنَكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِكَ كَدْحا فَمُلَاقِيهِ))، ((وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون))، كل ذلك قبل أن يجىء خطاب التكليف بالعقيدة والشريعة، ولذلك فكل خطاب دعوى أو دينى يحاول اختزال الدور الإنسانى فى أنه قاصر وجاهل وتابع ويجب عليه الاستسلام لرجال الدين أو علماء الدين، فهو خطاب ساقط، بل ومتهاوٍ، فما خلق الله الإنسان وكرمه ليصبح ألعوبة فى أصابع الأفكار والأوهام التى يختارها البعض ولو ملأت الكتب وزحمت المكتبات.

ــ2ــ
كذلك مما يؤكد وجوب مراعاة حرية الإنسان ومخاطبة الناس على قدر ما اقتنعوا وبقدر ما يقدرون على تحمله وفعله، ما يؤكده القرآن الكريم من أدوار الوظيفة النبوية والرسالة حيث يحصر القرآن مهمة الرسل عامة ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة فى البلاغ، حيث يقول: ((وَمَا عَلَى الرَسُولِ إِلَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) و((فَإِنَمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ )). ويبين القرآن أدوار البلاغ فيقول: ((يَا أَيُهَا النَبِيُ إِنَا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللَهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا)). بل يتقدم القرآن خطوة أبعد مدى إذ يقرر أن الله جل جلاله رفع كل أنواع السلطات ولم يأذن بها للنبى صلى الله عليه وسلم ((فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظا))، ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا))، ليتضح لكل ذى قلب وعقل يريد ممارسة الدعوة والخطاب الدينى أن الأسوة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سلطات على القلوب والعقول، فليس من حق الدعاة فى أى ظرف أن يزعموا صواب رؤيتهم وخطأ رؤية الآخرين، فذلك الزعم يزاحم الألوهية ويتجاوز النبوة، ويصنع صراعا فيما بين المؤمنين، وصراعات أخرى بين المؤمنين من ناحية والآخرين من ناحية ثانية.

ــ3ــ
ولا نذهب بعيدا حينما نراجع تاريخ الخطاب الدعوى وعشرات الآلاف من الدعاة خلال تاريخ المسلمين، لكن المذاهب التى انتشرت وكتب لها الشيوع معدودة وأبرزها ما كان من تكاثر «مذهب أهل السنة» وضمور «مذهب التشيع» لما استحدثه الشيعة من ابتداع ولاية على رقاب الناس وقلوبهم بما زعموه من ولاية الأئمة على الناس، وحينما حاولوا تهذيب ذلك العيب قال بعضهم بـ«ولاية الفقيه»، وكل ذلك يثير العجب العجاب إذ يمنحون لفئة من الناس ما منعه الله من الأنبياء والرسل !!! فكيف تتجاوب العقول مع مذاهب ودعوات تزعم لنفسها ما ليس للنبيين ولا المرسلين؟!

ــ4ــ
وداخل المجتمع السنى، كثرت المذاهب لكن لم يكتب الشيوع إلا للمذاهب الأربعة المشهورة نظرا لما تبنته هذه المذاهب من احترام «حرية إرادة الإنسان» فضلا عن إعلانهم الواضح أن خطابهم ما هو إلا «رأى، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه». وقد توارث أهل الدعوة والفقه مبادئ لا تنسى، فهذا مالك بن أنس رضى الله عنه يقول عن نفسه وغيره: «كُلُ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَرُدُ عليه إِلَا صَاحِبَ الروضة» ويعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأقوال الشائعة لأبى حنيفة رضى الله عنه حينما مدحه بعض مريديه قائلا « يا أبا حنيفة، هذا الذى تفتى به هو الحق الذى لا شك فيه»، فقال: «والله لا أدرى لعله الباطل الذى لا شك فيه»، ثم يعلن تقديره لمذهبه قائلا: «علمنا هذا رأى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، وهذا القول من أبى حنيفة ينتج عدة أصول:
1ــ أن تفسير الدين يدور بين الصواب والخطأ، وليس بين الإيمان والكفر
2ــ أن الخطاب الدينى رأى وليس عقيدة وشريعة
3ــ أن الخطاب الدعوى مسوغه لدى الناس القبول والاقتناع والقدرة على الاتباع
4ــ إخلاء ساحة الفكر المتدين من النزاع والسلطة وغير ذلك كثير

يتبع

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات