سنوات الدم فى العراق - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 8:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سنوات الدم فى العراق

نشر فى : الخميس 28 أكتوبر 2010 - 10:27 ص | آخر تحديث : الخميس 28 أكتوبر 2010 - 10:27 ص

 لم يمثل محتوى الوثائق التى نشرها موقع ويكيليكس الشهير أدنى مفاجأة لجميع المتابعين للشأن العراقى. ومن لديه أدنى شك فى هذا الحكم عليه أن يتحلى بالصبر ويراجع آلافا من التقارير والمقالات الصحفية والدراسات والكتب التى صدرت فى هذا الصدد.

سوف يكتشف، إن فعل، أن الجديد الوحيد الذى أضافه نشر المحتوى فى صورة وثائق أمريكية سرية هو تزويدنا بأدلة قانونية على صحة ما كنا نعرفه ونتداوله. بل لقد سمعت بأذنى من أبنائنا العراقيين الذين قدموا للقاهرة للدراسة بعد الغزو ما يوازى فى دقته ما احتوته تلك الوثائق مع فارق مهم هو أن بعضهم كان شاهد عيان عليها أو ضحية لها. الجريمة معروفة إذن وإن لم تكن كاملة، فقد تسرب الكثير عنها قبل نشر الوثائق وتأكد وقوعها «للمحايدين» بعد هذا النشر.

لذلك فقد وجدت نفسى مهتما بردود فعل النشر أكثر من محتواه، واستوقفتنى بالذات قضية تتعلق بما يمكن تسميته «بنية العدالة» فى عالمنا. لم ينف أحد من أصحاب الوثائق صحتها، وإن فعلت الأطراف العراقية والإيرانية التى أحرجها النشر كثيرا. لكن بؤرة الاهتمام لدى الغالبية من هؤلاء انصبت على قضية «التوقيت».

بعبارة أخرى رأت هذه الغالبية أن توقيت النشر «غير ملائم» وأنه يمثل تهديدا لأرواح كثيرة، وأن غرضه «سياسى» بامتياز. يا الله! أيمكن أن يرى الإنسان عهرا سياسيا أكثر من هذا؟ يسقط مئات الآلاف من العراقيين ضحية للغزو، ويقدم آخرون قربانا لفرق الموت التى تورط فيها مسئولون عراقيون كبار، ويقع فريق ثالث فريسة لإطلاق يد إيران فى العراق، ورابع تغتاله شركات الأمن الخاصة التى حلت بوطنه بعد الغزو، ثم يقال إن توقيت النشر «غير ملائم»، وإنه يعرض حياة «المجرمين» للخطر، أو يربك حساباتهم السياسية.

ولنتصور أن محققا يحاول كشف أسرار جريمة قتل، وهو واثق بحدسه وخبرته من شخصية المجرم، غير أنه لا يملك دليل إدانته، ثم يتوصل أخيرا إلى هذا الدليل ويعلنه، فيكون رد الفعل الأساسى لصنيعه أن يقال له «لكنك بذلك تعرض أرواح عصابته أو أسرته للخطر»، أو «إنك تلحق بهذا الإعلان ضررا بمصالح المجرمين». فعن أى عدالة دولية نتحدث؟

لقد مزق السيد «أوكامبو» المدعى العام فى المحكمة الجنائية الدولية نفسه إربا، عندما اعتقد أنه توصل إلى ما يثبت إدانة الرئيس السودانى فى جرائم حرب فى دارفور، وأقام الدنيا يومها ولم يقعدها، وأفرط فى الحديث عن المصير المحتوم للرئيس المتهم، غير أن شعرة واحدة لم تهتز له مع كل جريمة ارتكبتها إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وخارجها كما فى مذبحة «أسطول الحرية»، وها نحن نبحث عن حرف واحد يتفوه به بخصوص هذه الفضيحة دون جدوى.

وقد يقال لنا إن الولايات المتحدة خارج نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لعدم انضمامها إلى الاتفاقية المنشئة لها، ومن ثم فلا شأن لأوكامبو أو غيره بما جرى ويجرى، لكن هذه مناسبة ينبغى ألا تمر دون أن نسجل للعدالة الدولية عوارها وعجزها.

ولنتأمل بعض ردود الأفعال التى تدفع إلى الانفجار كمدا. هاهو المتحدث باسم البنتاجون يعجز عن نفى محتويات الوثائق وإن قلل من أهميته، فهو عبارة عن «معلومات أولية جمعتها وحدات عسكرية» ولا تتضمن «تحليلا استراتيجيا ولا معلومات رفيعة المستوى»، له الشكر على أن أكد لنا صحة ما نعتبره نحن بمعاييرنا معلومات بالغة الأهمية كونها تثبت ما كنا نعتقده منذ سنوات دون سند قاطع لدينا، لكن جل اهتمامه انصب على «شجب» ويكيليكس «لحضه الناس على خرق القانون وتسريب وثائق سرية».

 

وكأن كل ما تحتويه الوثائق لا يمثل «خرقا للقانون»، وهو يصرح بأن نشر الوثائق قد يشكل تهديدا «للقوات الأمريكية والمتعاونين معها»، أى لمرتكبى الجريمة، مع أن الموقع الذى نشر الوثائق قد أفاد أن قسما كبيرا منها نُشر من دون أسماء لأنها تمثل خطرا على بعض الأشخاص، وكذلك فعلت مجلة «دير شبيجل» الألمانية التى نشرت الموضوع بدورها، فهل يمكن أن نجد استخفافا بالعقل أكثر من هذا؟

من ناحية أخرى كان واضحا أن نظرية «المؤامرة» قد سيطرت على أطراف كثيرة طالها نشر الوثائق، «فتوقيت» النشر لدى هؤلاء ذو صلة بانتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى وسباق الرئاسة الذى لم يعد بعيدا، أما على الصعيد العراقى فقد تشعبت نظرية المؤامرة واستشرت كثيرا، فتوقيت النشر يهدف إلى تشويه صورة المالكى فى اللحظات الحاسمة لاقترابه من التمديد له فى مقعد رئاسة الوزراء وتخريب جهوده فى هذا الصدد، فقد اعتبر ائتلاف دولة القانون الذى يتزعمه المالكى أن كل ما أورده الموقع يأتى فى إطار «حملة تشويه» لسمعته

، فهل يمكن أن نتصور سخفا كهذا؟ أربعمائة ألف وثيقة تُنشر عن سنوات الغزو الأمريكى فى العراق الذى بدأ قبل ظهور المالكى على سطح السياسة العراقية بسنوات، وتتناول أى تلك الوثائق أمورا تتعلق بسياسات قوة عظمى وأخرى إقليمية ثم يقال إن كل ما فيها ليس سوى «حملة تشويه للمالكى»، وأشك أصلا فى أن يكون من أدلى بهذا التصريح العجيب قد قرأ حرفا واحدا من هذا الكم الهائل من الوثائق الذى وُصف تسريبه بأنه أكبر عملية تسريب وثائق فى التاريخ.

لكن الطريف حقا هم أولئك العراقيون «الأكثر ملكية من الملك»، فبينما لم تجرؤ جهة أمريكية رسمية واحدة على أن تشكك فى صدق هذه الوثائق «رفض» فريق من العراقيين محتواها، فقد طالب عضو فى «الائتلاف الوطنى» العراقى بعد أن تساءل بدوره عن الغاية من توقيت الكشف عن الوثائق بتقديم أدلة تسمح للجميع بالحكم على صدقية الوثائق، ونفى ائتلاف «دولة القانون» الاتهامات التى وردت فى الوثائق وبيّن أحد أعضائه «أن المالكى ليس بالصورة التى تحدث عنها الموقع، وأنه يعمل من أجل خدمة العراق وتقدمه»، مطالبا الموقع بتقديم الأدلة التى تثبت تورط المالكى بالخروقات «المزعومة».

كذلك رفضت مصادر قيادية فى حزب الفضيلة التقارير عن وقوف إيران خلف عدد من الأحزاب العراقية ومنها «الفضيلة» التى تأتمر بأمرها، وضلوعها فى تخطيط عمليات تصفية خصومها وتمويلها، وقالت هذه المصادر إن نشر معلومات «كاذبة» فى هذا الوقت غير صحيح، لاسيما أن العراق يمر بمرحلة حرجة، بما يدل على وجود جهات خارجية لا تريد الخير للعراق ومستقبله مبينة أن حزب «الفضيلة ليست لديه ميليشيات أو ارتباطات خارجية بإحدى دول الجوار». ويبدو أن مفهوم «الوثيقة» غائب أصلا عن كل من تحدث وفقا لهذا النهج.

المهم إذن لدى جميع الأطراف المتهمة أو المدانة هو حماية مرتكبى الجرم وعدم إحراجهم بنشر الوثائق، أما محاسبتهم على جرائمهم فتبدو فكرة سخيفة لا محل لها فيما تتواصل الجهود من أجل بناء «عراق جديد»، وهى أصلا أى المحاسبة كلمة لم تتردد على لسان أى مسئول أمريكى أو عراقى أو إيرانى.

صحيح أن منظمة العفو الدولية قد أدانت محتوى الوثائق، وأن المقرر الخاص للأمم المتحدة لشئون التعذيب قد دعا الرئيس الأمريكى إلى إجراء تحقيق، لكنه لاحظ أن هذا التحقيق لا يمكن إلا أن يكون أمريكيا فيما يذكرنا بالتحقيق الإسرائيلى فى جريمة أسطول الحرية. أما محكمة الجنايات الدولية فقد سبقت الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لا تعترف بها أصلا، فويل للعدالة فى عالم قبيح لا يعرف سوى لغة المصالح والنفاق.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية